|
||
قبل عدة أشهر من ذلك الوقت، دُعيت لإلقاء محاضرة في أحد الكيبوتسات الواقعة في شمالي البلاد. بعد المحاضرة، دُعيت لشرب القهوة مع بعض الأصدقاء، حيث روى لي المضيف سرا أنه قبل أسبوع من ذلك الوقت كان قائد لواء الشمال، ديفيد (دادو) إلعزار في زيارة في المكان. وفي الغرفة ذاتها، بصحبة هؤلاء الأصدقاء الأحماء ذاتهم، قال دادو : "في كل ليلة، قبل أن أخلد إلى النوم، أتضرع إلى الله أن يمركز عبد الناصر جيشه في صحراء سيناء، لنقضي عليه هناك." حين قام عبد الناصر بتركيز بعض القوات، في منتصف شهر أيار من عام 1967، كان يبدو ذلك ردا على تلك الصلاة. لذلك، حين ارتجف كل من حولي خوفا، لم أكن أنا قلقا على الإطلاق. لقد كان الخوف حقيقيا. لقد تحدثوا عن "كارثة ثانية". منذ بداية الأزمة وحتى نشوب الحرب، طيلة ثلاثة أسابيع كاملة، كان الخوف الذي اعترى الدولة يزيد يوما بعد يوم. "صوت الرعد" – محطة البث القاهرية التي كانت تبث بلغة عبرية ركيكة، والتي كانت تعتبر حتى ذلك الوقت بمثابة نكتة، بثت تهديدات تقشعر لها الأبدان.. جمال عبد الناصر ذاته – الذي كان الخوف يعتريه في الواقع من مغبة شن هجوم إسرائيلي ولم يكن يحلم أن يهاجم بنفسه – كان يعتقد أنه إذا هدد بقذف إسرائيل إلى البحر فسيخيفنا ويردعنا عن شن الحرب. كانت النتيجة، بالطبع، عكسية. سلسلة التهديدات التي حولت الحرب إلى أمر محتوم، تشبه كثيرا الأحداث التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، "الحرب التي لم يرغب أحد بنشوبها". لقد قدمت سوريا وصايتها لحرب العصابات الفلسطينية، التي شنها ياسر عرفات من الحدود السورية. حكومة إسرائيل ردّت صاع التهديدات صاعين. رئيس الأركان، إسحق رابين، هدد علنيا باحتلال دمشق وبإسقاط النظام السوري. اعترى الهلع السوريين وطلبوا مساعدة مصر. عشية نشوب الأزمة، دعاني السفير السوفييتي، تشوباخين، للقاء في سفارته في رمات غان. لقد ادعى على مسامعي أن إسرائيل تخطط للهجوم على سوريا، وأنها قد بدأت بحشد قواتها على الحدود السورية. لقد كان يعتبر هذا الموضوع جزءا من مخطط أمريكي كبير لإقامة أنظمة حكمة موالية لأمريكا في المنطقة بأسرها – ابتداءً من "ثورة الكولونيلات" في اليونان (في سهر نيسان من عام 1967) وانتهاءً بالمكائد الأمريكية في إيران التي كان يحكمها الشاه. طلب مني السفير أن أحذر الجمهور الإسرائيلي من منطلق منصبي كعضو كنيست وكمحرر لأسبوعية "هعولام هازيه". أعتقد أن إجابتي كانت تهكمية بعض الشيء: "إذا كنت خائفا من هذا الأمر، فلماذا لا تنصح سفيركم في دمشق بأن يطلب من أصدقائكم السوريين وقف هجومات العصابات على إسرائيل، لفترة ما على الأقل؟ لماذا يمنحون حكومتنا ذريعة للحرب؟ " لقد فاجأتني إجابة تشوباخين: "هل تعتقد أن أحدا ما في دمشق يصغي إلى سفيرنا؟" كانت الرواية عن "حشد القوات الإسرائيلية"، بطبيعة الحال رواية مضحكة. يمكن لجنرال سوفييتي أن يصدق أنه قبل شن الهجوم يجب حشد القوّات على الحدود. ولكن في مساحة إسرائيل الصغيرة، فإن "حشد" القوات هو أمر لا حاجة فيه وهو غير منطقي. حيال طلب السوريين المساعدة وروايات السوفييت حول حشد قوات الجيش الإسرائيلي على الحدود، رأى عبد الناصر فرصة مواتية لإبراز زعامته في العالم العربي. لقد أرسل القوات إلى صحراء سيناء. لو كان يقصد فعلا شن الحرب، لكان سيفعل ذلك بشكل سري قدر الإمكان. غير أن قواته قد عبرت القاهرة في وضح النهار، وبصخب كبير – وهذا يثبت أن هدفه ما كان إلا إثارة الأنظار. التقيت في إحدى الحفلات صدفة عيزر وايزمان. كان وازيمان آنذاك قد تقلد لتوه منصب قائد سلاح الجو، وقد روى لي أن شعبة المخابرات قد فوجئت تماما من تواجد القوات المصرية في سيناء. كان الجيش الإسرائيلي على قناعة تامة بأن الجيش المصري منهمك كله في اليمن، إذ كان عبد الناصر متورطا في حرب أهلية هناك. قال لي وايزمان أنه قد فوجئ أيضا من قدرة سلاح الجو المصري على نقل الإمدادات جوا للقوات المبعوثة إلى اليمن. (لقد تناست كافة تقارير وسائل الإعلام الإسرائيلية المتعلقة بحرب حزيران تماما الحقيقة الحاسمة، أن معظم فرق الجيش المصري كانت في اليمن آنذاك.)ׁׁ بتاريخ 23 أيار، أعلن عبد الناصر أنه قد لغم مضائق تيران، وهو المنفذ البحري إلى ميناء إيلات. (كما اتضح لاحقا كان هذا نبأ كاذبا.) بالنسبة لإسرائيل، فإن سد طريق الوصول إلى إيلات كان بمثابة ذريعة لشن الحرب. إيلات هي نافذة إسرائيل على العالم الشرقي، وللوصول الحر إليها أهمية شعورية، تتعدى قيمتها العملية. أتذكر أنه لدى عودتي من الكنيست في ذلك اليوم أبلغت أعضاء الإدارة في حزبي ("حركة هعولام هازي – قوة جديدة"): "لقد أصبحت الحرب أمرا محتوما." وأضفت: "إنها ستغير كل شيء." لكي يزيد التأثير الدراماتيكي لما يقوم به، طالب عبد الناصر من سكرتير الأمم المتحدة، أو طانت، إخراج قوات الأمم المتحدة من المنطقة الحدودية – ولكن من مقطع معين فقط. (كانت قوات الأمم المتحدة منتشرة على امتداد الحدود منذ نهاية حرب سيناء عام 1956.) لم يفهم أو طانت ماذا حدث، وأخرج جنوده ليس من المقطع الذي حدده عبد الناصر بحسب، بل قام بإخلاء كل قوات الأمم المتحدة. الآن، ارتعب عبد الناصر حقا. لقد أدرك أن إسرائيل من شأنها أن تشن حربا وقائية. ولكونه قد آمن بالترويج الذي ينشره هو ذاته، بأن إسرائيل ليست إلا دمية أمريكية، أرسل نائبه إلى واشنطن لإقناع الأمريكيين بإيقاف إسرائيل. الإسرائيليون، من جهتهم، لم يروا سوى التهديد المتزايد وقد آمنوا أن من شأنه أن يُهاجموا في أية لحظة. يمكنني أن أكون شاهدة على الشعور العام بين أوساط النخبة السياسية. قبل عدة أيام من الحرب، أخذني مناحيم بيغين جانبا وقال لي: "أوري، إن لكلينا آراء مختلفة"، وأضاف بانفعال كبير: "ولكن في الأزمات التي تتهدد الوجود فلدينا نفس الهدف: أن ننقذ إسرائيل. إن لك ولأسبوعيتك تأثير كبير على الشباب. أرجوك أن تستخدموا هذا التأثير لرفع المعنويات بين أوساط الأجيال الشابة!" قلت في خطابي الأخير في الكنيست قبل نشوب الحرب: "في مثل هذه اللحظة المتأرجحة قبل نشوب الحرب، يمكن لأي سياسي إسرائيلي كبير أن يبادر إلى مبادرة ثورية تؤدي إلى محادثات مباشرة – ربما سرية، أو علنية ودراماتيكية – من شأنها أن تغير الاتجاه فيما يتعلق بمكانتنا في المنطقة." زاد الخوف العام بسبب شخصية ليفي إشكول، وريث دافيد بن غوريون كرئيس للحكومة وكوزير للدفاع. كان يُعتقد – خطأ – أنه لا يعرف ماذا يفعل، وغير قادر على قيادة الدولة. لقد أصابته البلبلة في أحد خطاباته في التلفزيون، بعد أن قام أحد مستشاريه بإدخال كلمة في اللحظة الأخيرة، وقد بدا للمستمعين أنه يتلعثم. خلال "أيام الخوف" تلك، كما كانت معروفة آنذاك، كان إشكول يعيش بتوتر هائل. كان الجنرالات (ومن بينهم ماتي بيلد، الذي أصبح في ما بعد صديقي وناشط سلام) يذهبون إليه وينذرونه، عمليا، مطالبين بالهجوم الفوري. ولكون معظم الرجال في الدولة كانوا مجندين وانتظروا على الحدود، كانت الحياة العادية مشلولة. لقد حبست الدولة كلها أنفاسها. كنت أتلقى تقريرا يوميا تقريبا عما يحدث في الحكومة. كان مصدري هو يغئال ألون. ألون الذي شغل عام 1948 منصب قائد "البلماح" وقائد الجبهة الجنوبية، يشغل الآن منصب وزير العلم. بعد عام 1948 أصبحنا أصدقاء. حين بدأت الأزمة عام 1967، قررت إصدار صحيفة يومية باسم "داف" (صفحة). لم أعثر على مطبعة تكون مستعدة وقادرة على طباعتها، فيما عدا المطبعة التي كانت تابعة لحركة الكيبوتس الموحد التي كان ألون يترأسها. وهكذا، في خضم الأزمة، كنت ألتقي به كل يوم تقريبا بهدف التفاوض معه. في هذا اللقاءات كان يفشي ما في قلبه. لقد كان وظيفته الاستثنائية في الحكومة تحبطه جدا. لقد تاق إلى تلقي حقيبة الدفاع. الآن، وبعد أن تفاقمت الأزمة يوما بعد يوم، كان يبدو أن ساعته قد حانت. تزايدت مطالبة الشارع باستقالة إشكول، أو على الأقل التخلي عن وزارة الدفاع. بدأت تحوم أسماء عدة مرشحين في الفضاء لمنصب وزير الدفاع. كان ألون قد ارتقى مرتبة رفيعة في هذه القائمة. كان المرشحون الآخرون هم دافيد بن غوريون المُسن، ييغئال يدين (الذي كان رئيس الأركان الفعلي في حرب عام 1948)، وزير الدفاع السابق شمعون بيرس وكذلك موشيه ديان. كان ألون واثقا من أنه سيحظى بالمنصب، لأنه كان عضوا في الحكومة وكان يتقلد وظيفة ناجحة في الحرب. كان يبدو أكثر سعادة مع مرور الأيام. غير أن القائمة أخذت بالتقلص في الشارع، وفي نهاية الأمر ركّزت المطالبة الجماهيرية على ديان. مجموعة من النساء (اللوتي حظين على الفور بالتسمية "نساء فيندور السعيدات) تظاهرن من أجله أمام مقر حزب العمل (الذي كان يدعى آنذاك "المعراخ") في تل أبيب. في أواخر شهر أيار، حين ذهبت للقاء ألون مرة أخرى، كان منهارا. لقد سمع لتوه أن إشكول قد خضع وعيّن ديان. كان ألون يحتقر ذلك الجنرال المبجّل. مثله مثل معظم قادة عام 1948، كان يعتقد أن ديان هو جندي سيء، غير قادر على إدارة غرفة عمليات منظمة ولا مسؤولية لديه. (سمعت ديان ذاته ذات مرة يقول أنه يتفاخر "بانعدام مسؤوليته".) كان لديان تأثير قليل على تخطيط الحرب، ولكن كان له تأثير هائل على معنويات الجنود، بسبب حضوره، شخصيته المتألقة وسمعته كقائد شجاع ومقدام. المجندون الذين رابطوا على الحدود، والذين انتظروا وانتظروا، تلقوا نبأ التعيين بحماسة. لقد فهموا أن الانتظار الطويل على وشك الانتهاء. حين تلقى الجيش الأوامر بالهجوم، كان الأمر وكأنه قد تحرر زنبرك كان مشدودا إلى نهايته. في اليوم الأول من الحرب، بعد اجتماع مستعجل في الكنيست، جلست في ملجأ الكنيست في حين كانت المدافع الأردنية في القدس الشرقية تقصفنا. تقدم مني أحد الأصدقاء وهمس في أذني: "لقد انتصرنا في الحرب. لقد دمرت طائراتنا سلاح الجو المصري وهو على الأرض". تم منع هذه المعلومات من الوصول إلى الجمهور. كل الأنباء عن الانتصارات الساحقة التي أحرزها الجيش الإسرائيلي تم حفظها من قبل الرقابة، لأن الحكومة خافت أنه في حال العلم بها، فستفرض الأمم المتحدة وقف إطلاق النار – الأمر الذي لم يكن الجيش الإسرائيلي معنيا به آنذاك. بهذا الشكل تعرض الجمهور الإسرائيلي إلى التفاخر المضحك من قبل إذاعة "صوت الرعد"، التي أعلنت أن تل أبيب تشتعل. لقد تم احتلال الكثير من المناطق بالصدفة تقريبا. كانت هناك خطة عسكرية للقضاء على الجيش المصري في الجنوب، ولكنها لم تكن خطة لحرب شاملة. لم يعارض ديان احتلال غزة فحسب، بل عارض أيضا احتلال القدس الشرقية. تم احتلال الضفة الغربية في إطار حملة محبوكة، حين بدأ الملك حسين إطلاق النار بشكل غير متوقع، ليستعرض تضامنه مع المصريين. لقد اعترض ديان على الحملة ضد سوريا، خوفا من التدخل السوفييتي. على أية حال، لم تكن هناك أية خطة بالنسبة المواطنين المدنيين الكثيرين في المناطق المحتلة. في اليوم الخامس للحرب، فور احتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، نشرت رسالة مفتوحة وجهتها إلى ليفي إشكول، اقترحت فيها استغلال الفرصة وأن نقترح على الفلسطينيين إمكانية إقامة دولة خاصة بهم. لقد دعوت إلى هذه الفكرة منذ عام 1949، ولكني كنت على قناعة في ذلك الحين، بينما كانت كل المنطقة قابعة في حالة صدمة، أنه قد حان الوقت لإحلال السلام مع الفلسطينيين بواسطة اقتراح تاريخي. فور انتهاء الحرب، دعاني إشكول إلى حديث شخصي. لقد استمع بصبر حين شرحت له الفكرة. قال لي والبسمة تعلو شفتيه: "أوري، أي تاجر أنت؟، ففي المفاوضات يجب أولا اقتراح الحد الأدنى والمطالبة بالحد الأقصى. بعد ذلك، وبشكل تدريجي، يتم تحسين الاقتراح إلى أن يتم التوصل إلى تسوية تكون معتدلة. أنت تقترح أن نقدم كل شيء منذ البداية، حتى قبل بدء المفاوضات." أجبته قائلا " هذا صحيح، حين نبيع حصانا، وليس حين نود التوصل إلى سلام تاريخي". خلافا لصورته الخارجية، كان إشكول رجلا شديد المراس يختبئ تحت سلوك وُدي. روح فكاهة مستقاة من الإيديش وطريقة كلام تؤدي إلى اليأس بين أوساط الموظفات المختزلات في الكنيست. لقد كرس كل حياته للاستيطان اليهودي، وها هو الآن يرى أمامه مناطق شاسعة يمكن فيها إقامة بلدات جديدة. في الأشهر وفي السنوات التالية، ألقيت عشرات الخطابات في الكنيست (وكتبت عشرات المقالات في أسبوعية "هعولام هازيه") حول فكرة إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلت لتوّها. كشفت النقاب في أحد الخطابات عن أنني تحدثت مع كل الزعماء البارزين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن جميعهم (ومن ضمنهم من كانوا معروفين "كمؤيدين للأردن") قالو لي أنهم يفضلون دولة فلسطينية على إرجاع الحكم الأردني. لقد أنكر ديان وإشكول هذا بشكل علني، ولكن إشكول أرسل إليّ مستشاره لشؤون الأراضي المحتلة، موشيه ساسون، ليستفسر، في إطار حديث شخصي، عن القاعدة التي يستند إليها ادعائي هذا. في الثالث عشر من شهر آب من عام 1969، أرسل ساسون تقريره إلى رئيس الحكومة (وأرسل إلي نسخة عنه)، حيث صادق فيه على أن المعلومات التي بحوزته متطابقة لمعلوماتي. كانت مفاجئة سارة حين اكتشفت أن هذا الاقتراح يتمتع بتأييد غير قليل بين أوساط قيادة الجيش. يقولون أن الجنرالات يخططون الحرب الأخيرة دائما، الحرب التي انتهت. إنهم ينظرون أيضا إلى السلام الأخير. في عام 1956، بعد الحرب السابقة، أجبر رئيس الولايات المتحدة أيزنهاور وزعماء الاتحاد السوفييتي بن غوريون على إرجاع كل الأراضي التي تم احتلالها في حملة سيناء إلى مصر. وقد توقع الجميع أن يحدث الأمر ذاته في هذه المرة أيضا. حيال هذه الإمكانية، فضّل بعض الجنرالات دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب دولة إسرائيل على إرجاع الأراضي إلى الأردن، وهي دولة أكبر يمكن أن تجتمع فيها جيوش الأردن، سوريا، العراق والمملكة العربية السعودية. لقد وصل التأييد لفكرة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل، في استطلاعات الرأي، إلى نسبة هائلة بلغت 37%. لقد مرت هذه المرحلة بسرعة. الولايات المتحدة، التي أبلغت إسرائيل سرا، عشية الحرب، أنها تعارض هجوما إسرائيليا، لم تفعل الآن شيئا لإجبارها على الانسحاب. لقد فهمت الزعامة الإسرائيلية، تدريجيا، أنه ليس ثمة أي ضغط دولي لإرجاع أي منطقة كانت. إضافة إلى ذلك، فإن "اللاءات الثلاثة" التي أقرها زعماء الدول العربية المخذولين، في أيلول من عام 1967، في مؤتمر القمة في الخرطوم ("لا سلام، لا اعتراف، لا مفاوضات)، قد شدت على سواعد الإسرائيليين الذين يدعون إلى ضم الأراضي المحتلة. أخذت طواقم من "الكيبوتس الموحد" تجول الضفة الغربية للعثور على أماكن للمستوطنات. لقد وجدوا هذه الأراضي في غور الأردن – وهي منطقة مستوية، ملائمة للتراكتورات، وفيها ماء وفير من النهر. فور الحرب كان آلاف لاجئي حرب عام 1948، قد تم طردهم من المخيمات الكبيرة بجوار أريحا. بهذه الطريقة بدأ زحف المستوطنات، الذي غير وجه إسرائيل تماما. لقد بدأت أشكال التطهير العرقي من تلقاء نفسها تقريبا. لم يُعرف في أية مرة من المرات من هو الذي كان يصدر الأوامر. من الواضح أن الأوامر قد تم إصدارها شفويا. إن روح موشيه ديان كانت تحوم حول كل هذه الأوامر تقريبا. فور انتهاء الحرب، توجه إليّ الكاتب عاموس كينان، وهو مضطرب تماما، وروى لي أنه كان شاهد عيان على طرد آلاف السكان من ثلاث قرى في منطقة اللطرون. طلبت منه أن يجلس على الفور وأن يكتب تقريرا عما رأى. كان هذا المستند مروّعا. سافرت إلى قرية عمواس ورأيت كيف تدمر الجرافات البيت تلو الآخر. حاولت أن ألتقط الصور ولكن الجنود طردوني. أسرعت من هناك إلى الكنيست مباشرة وقدمت نسخ التقرير الذي كتبه كينان إلى بعض الوزراء، ومن بينهم مناحيم بيغين وأعضاء من مبام، وإلى مساعدي رئيس الحكومة. هذا الأمر لم يكن مجديا. لقد تم الانتهاء من العمل قبل أن يتمكن أي شخص من التدخل. تمتد على هذه المنطقة الآن منشأة تُدعى "بارك كندا". في ذلك الوقت، كان الجميع ما زالوا يعتقدون أن إسرائيل ستضطر إلى إرجاع الأراضي التي احتلتها. كانت قرى اللطرون بمثابة نتوء في الخط الأخضر وقد تحكمت بالطريق الرئيسي المؤدي من تل أبيب إلى القدس. لذلك قرر من قرر خلق أمر واقع، يمنع إرجاع هذه المنطقة. في تلك الفترة، وصلني نبأ مفاده أن الجيش قد بدء بهدم مدينة قلقيلية. لقد حاولت المدفعية الأردنية، من ضواحي هذه المدينة، أن تقصف تل أبيب، من مسافة 25 كيلومترا. أسرعت إلى هناك ورأيت أن حيا واحدا كان قد دُمر عن بكرة أبيه تقريبا. أسرعت إلى الكنيست مرة أخرى، لأحث رئيس الحكومة ووزراء آخرين على التدخل. وبالفعل، تم وقف عمليات الهدم، وأعيد بناء البيوت التي كانت قد هُدمت. لا أعرف ماذا كان نصيبي في ذلك، ولكن منذ ذلك الحين، حين أمر بالمكان، أشعر بالرضا. (لقد أصبحت مدينة قلقيلية معزولة الآن بسبب الجدار العنصري). بعد فترة قصيرة من ذلك الوقت، جاء إلي أحد الجنود، وكان يبدو وكأنه قد فقد صوابه. لقد روى لي أن هناك لاجئون يحاولون كل ليلة عبور نهر الأردن في طريقهم إلى البيت، وهناك أمر بقتلهم جميعا في الحال، بمن فيهم النساء والأطفال. كتبت رسالة مطوّلة إلى رئيس الأركان، إسحق رابين. وقد رد عليّ، عن طريق رئيس مكتبه، شموئيل غات، بأن الجيش قد فحص المسألة "واستخلص ما يمكن استخلاصه". حلى حد علمي، لقد توقفت هذه المجزرة المدروسة. (قبل عدة أيام التقيت هذا الجندي، يعزف في الشارع.) في اليوم الأول من المعارك، كانت هذه الحرب حربا دفاعية. لقد أعلن ديان أننا نتجه إلى الاحتلال. وقد اعتقد معظم الجمهور ذلك أيضا. بعد يوم من المعارك، تحولت الحرب إلى حرب احتلال وضمّ للأراضي. لقد ثمل الجمهور تماما بالمشاهد التوراتية، بوابل "ألبومات النصر"، بالأناشيد الوطنية التجارية وبالشعارات الداعية إلى مجيء المسيح المنتظر. لقد غيرت حكومة إشكول، التي قررت في البداية إدارة مفاوضات لإرجاع الأراضي المحلة، موقفها حين علمت أنه لا حاجة إلى ذلك. رويت في أحد مقالاتي عن طريقة لصيد القرود: يتم تعليق زجاجة على أحد الأغصان، وتوضع فيها حبة فاكهة، يأتي القرد ويدخل يده، ليلتقط الفاكهة ويحاول سحبها إلى الخارج، ولكن القبضة المحكمة على الثمرة أكبر مما يجب. وهكذا يتم اصطياد القرد. يمكنه، بطبيعة الحال، أن يهرب في أية لحظة لو ترك الفاكهة، ولكن شهوته إلى الفاكهة تمنعه من ذلك. هكذا احتفظنا بالمناطق المحتلة، وتحولنا إلى رهائن شهوتنا الذاتية. توقع البروفيسور يشعياهو ليبوفيتش، بعد الحرب، وهو يهودي يحفظ الوصايا، أن يُفسدنا الاحتلال وأن يحولنا إلى "مدراء عمل وأفراد في جهاز الأمن العام". (لقد سميته النبي أشعيا ج، وهذا ما أغضبه. لقد قال أن النبي يتفوه بصوت الله، بينما هو يتفوه بأقوال المنطق فقط..) على نحو ارتجاعي تبدو الرواية كلها وكأن مُخرجا حذقا قد أخرجها – الهلع، قمة الخوف، النصر الساحق، الذي كان يبدو وكأنه أعجوبة. هذا يشرح كل ما حدث بعد ذلك. الشيطان، في أسطورة باوست، يشتري روح الدكتور المثقف مقابل كل الملذات الممكنة. شيء كهذا حدث عام 1967. كانت تبدو سلسلة الأحداث وكأن قوة عليا وضعت أمامنا طُعما كبيرا لكي تختبرنا. ما كان يبدو وكأنه هدية من السماء لم يكن سوى هدية من الشيطان، الذي أراد أن يشتري أرواحنا. هل نجح في ذلك؟ هل فقدت إسرائيل روحها؟ آمل ألا يكون الأمر كذلك. آمل أن الثمالة ستبدأ أخيرا بالتلاشي. يبدو أن الكثير من الأقوال التي قيلت هذا الأسبوع تشير إلى ذلك. بعد 40 سنة من بدء الاحتلال، ما زال هذا السؤال من دون إجابة. |