|
||
لو كنت من مناصري الاحتلال كنت سأخاف من هذه الأغنية الرهيبة. لأن كلمات الأغاني أقوى من البندقيات. فالبندقية قابلة للتآكل، أما الأغنية فتظل إلى الأبد. في الأيام الأولى من خدمتي في الجيش الإسرائيلي كان هناك شعار مرفوع في غرفة الطعام ومكتوب عليه: "الجيش الذي لديه أنشودة وطنية خاصة به هو جيش لا يُقهر". قرر الجيل الفلسطيني الحالي الانتظار حتى تهدأ عاصفة الغضب. فقد يستجيب الجيل الفلسطيني القادم بشكل مختلف. في عيد ميلادي الخامس عشر، انضممت إلى حركة سرية حاربت ضد الاحتلال البريطانيّ. وبعد مرور 80 عاما ما زلت أتذكر كلمات تلك الأناشيد بحذافيرها. وقد كتبت أنشودة وطنية لكتيبتي أيضا. أنا لست شاعرا إطلاقا. ولكن كتبت بعض الأناشيد، ومنها "ثعالب شمشون". لذا أعرف مدى تأثير الأناشيد. لا سيما أنشودة مدح لبطلة عمرها 16 عاما فقط. عندما شاهدت عهدت التميمي وهي تصفع ضابطا في الجيش الإسرائيلي، أدركت أن شيئا هاما حدث. لقد تصرف الضابط بحكمة، ولم يطلق النيران أبدا، كما يحدث في أحيان قريبة، بل تراجع إلى الخلف مبتعدا عن عهد. أتمنى لو تصرف كل المتورطين في هذه القضية بحكمة كهذه. لأن هذا كان سيساعد على أن ننسى القضية منذ وقت. قال سياسي بريطاني: "السلطة تثير الفساد، والسلطة التامة تثير فسادا كليا". وأنا أقول: "الاحتلال يثير الغباء، والاحتلال المستمر يثير غباء تاما". في شبابي، عندما كنت عضوا في حركة سرية معادية للبريطانيين، عملت في مكتب محام بريطاني، عمل فيه موظفون بريطانيون تابعون لحكومة الانتداب. تساءلت دائمًا: كيف يتصرف أشخاص أذكياء بهذه الحماقة؟ لقد كانوا لطفاء وتعاملوا جيدا معي أيضا رغم أني كنت موظفا عاديا. ولكن ليس هناك خيار: يفرض الاحتلال على المحتلين التصرف بغباء. تسير الأمور كما يلي: بهدف تطبيق سيطرة الاحتلال على مدى سنوات على المحتل أن يؤمن بأنه الأفضل، وأن ضحاياه أقل مكانة منه وأنهم بدائيون. إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف يستطيع أن يقبع شعب آخر؟ هذا ما يحدث في إسرائيل الآن. عندما رأيت للمرة الأولى المشهد الذي صفعت فيه عهد جنديا على وجهه أدركت أن مصيبة قد حدثت. أصبح يشعر الفلسطينيون الآن بفخر وطني. وأصبحت عهد قدوة يحتذى بها. في المقابل، اعتاد الإسرائيليون على الاحتلال. فهم يعتقدون أن هذا الوضع طبيعي. وأنه يمكن أن يستمر إلى الأبد. ولكن الاحتلال ليس وضعا طبيعيا، وسينهار في يوم ما. سيطر عشرة آلاف بريطاني على نصف مليار هندي. حتى جاء غاندي، عندها أصبح الشبان الهنديون أقوياء، وسقط الحكم البريطانيّ كما تسقط أوراق الأشجار في الخريف. سيطر غباء شبيه على المحتلين الذي تعاملوا مع الشابة عهد، ومنهم ضبّاط، مدعون، قضاة عسكريون، ولكن لا يمكن العمل ضد هذه الحقيقة. لو كانت إسرائيل دولة احتلال ذكية - هذا تناقض ظاهري طبعا - كانت ستطلق سراح عهد منذ وقت طويل، بل ستطردها بقوة من السجن. ولكنها ما زالت تحتجزها، وتحتجز والدتها أيضا. ولكن أدرك المسؤولون في إسرائيل حقيقة معينة، وبمساعدة المحامية الذكية غابي لسكي تم التوصل إلى "تسوية". ألغي بعض الاتهامات المنسوبة إلى عهد، وحُكم عليها بالسجن لثمانية أشهر "فقط". بعد مرور ثلاثة أشهر سيُطلق سراحها. ولكن عندها سيصبح الوقت متأخرا: فصورة عهد أصبحت مخروطة في وعي كل طفل فلسطيني. عهد صاحبة الشعر الأشقر وعيون المنارة الزرقاء، عهد القديسة، المخلصة، جان دارك الفلسطينية، والرمز الوطني. حدث سيناريو عهد التميمي في الضفة الغربية. ولكنه ضرب أصداءه في قطاع غزة أيضا. تعتقد غالبية الإسرائيليين أن قطاع غزة يشكل منطقة أخرى، غير محتلة، وإسرائيل ليست مسؤولة عنها. ولكن الوضع في غزة أسوأ من الوضع في المناطق المحتلة رسميا. فهي محاطة من كل الجهات، وإسرائيل تحيطها من الشرق والغرب. وفي الغرب هناك البحر، المنطقة التي ينشط فيها سلاح الجو الإسرائيلي ويطلق النيران على كل ما يتحرك، فيما عدا سفن الصيد القريبة من الشاطئ. وتسيطر مصر على المنطقة الجنوبية من غزة، وتتصرف بشكل أسوأ من إسرائيل، وتتعاون مع إسرائيل تعاونا وثيقا. أصبح قطاع غزة أقرب إلى جهنم، إذ تصل كميات قليلة من الأطعمة إليه، تتوفر الكهرباء فيه لساعتين حتى أربع ساعات يوميا. يستخدم الغزيون مياه ملوثة، وتتوفر أماكن عمل قليلة أمامهم، ويسمح لهم بمغادرة قطاع غزة في الحالات الخطيرة فقط. لماذا؟ يعود السبب إلى الشيطان الذي يقلق الحكومة الإسرائيلية: الشيطان الديموغرافي. في فلسطين التاريخيّة، البلاد الواقعة بين البحر ونهر الأردن، يعيش الآن 13 مليون شخص، نصفهم من اليهود والآخر من العرب، (معدل العرب أعلى بقليل من اليهود). الأرقام ليست دقيقة. ولكن يعيش 3 مليون عربي في الضفة الغربية تقريبا، ونحو مليونين في قطاع غزة. ويعيش زهاء مليون ونصف المليلون في إسرائيل. معدل الولادة لدى العرب أعلى من معدله لدى اليهود في إسرائيل. تثير هذه الحقيقة قلقا لدى الكثير من الضباط الإسرائيليين لا سيما السياسيين. لهذا يبحثون عن وسائل لتغيير الموازين. اعتقد هؤلاء السياسيون ذات مرة أنه إذا لم يعد يحتمل الوضع في غزة فسيؤدي إلى هجرة السكان، ولكن هذا الحلم لم يتحقق. بل أصبح الفلسطينيون متمسكين أكثر. لهذا نشأ توجه جديد: تجاهل هؤلاء الحقيرين، والتظاهر كأن القطاع قد غرق في البحر، كما تمنى زعيم إسرائيلي ذات مرة. التخلص من القطاع ومن مليون فلسطيني. ولكن القطاع ما زال قائما. وفي الواقع تخضع غزة لسيطرة حماس، في حين تسيطر منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أبو مازن على الضفة الغربية. والكراهية بين كلا الجانبية علنية. ولكن حدثت هذه الحقيقة في كل حركات التحرير على مر التاريخ. مثلا، انقسمت الحركة السرية في إسرائيل إلى منظمة "هاجاناه" و" إتسل"، ثم انقسمت "إتسل" ونشأت منظمة "ليحي" التي كانت متطرفة أكثر. سادت الكراهية بين هذه المنظمات، ولكن الشعب الإسرائيلي لا يرى فرق بين الفلسطينيين. وكلهم متساوون. أصبحت عهد التميمي بطلة فلسطينية، وربما أدت دورا هاما في أحداث يوم الجمعة الماضي. طيلة وقت، ساد هدوء نسبي في القطاع. ونشأ اتفاق عملي بين حماس وحكومة الاحتلال الإسرائيلي. وشعر الإسرائيليون بالفخر إزاء حكمتهم، ولكن تظاهر سكان غزة فجأة. نظمت حماس تظاهرات يوم الجمعة بجانب الجدار الحدوديّ، دون استخدام الأسلحة. كان من المتوقع أن تكون التظاهرة بداية مقاومة غير عنيفة. وعندما سُئلت ماذا سيحدث، أوضحت أن الجيش الإسرائيلي سيستخدم النيران وسيقتل الفلسطينيين. ببساطة: لا يعرف الإسرائيليون كيف يتعاملون مع المقاومة غير العنيفة. فهم يطلقون النيران لجعلها مقاومة عنيفة. عندها يدركون كيف يتعاملون: يستخدمون عنفا أكبر بكثير. وهذا ما حدث يوم الجمعة الماضي. وقف القنّاصة على طول الحدود وتلقوا أوامر لإطلاق النيران على كل متظاهر بارز. قُتِل 18 متظاهرا غير مسلح، وأصيب نحو ألف فلسطيني. كانت ردود الفعل في العالم ضيئلة. وأثبتت سيطرة الحكومة الإسرائيلية والمنظمات الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية. ولكن لن يستمر هذا الوضع. ستستمر المظاهرات حتى يوم "النكبة" الذي يصادف في اليوم التالي لاستقلال إسرائيل. وستغمر الأعلام الفلسطينية شاشات التلفزيون في العالم. وستظل عهد في السجن في يوم النكبة أيضا. |