|
||
كنت حينها عضوا في الكنيست. بعد انتهاء الحرب فورا، دعاني إشكول للقائه في مكتبه في مقر الكنيست. أصغى إشكول إلىّ جيدا، ثم أجابني كما يجيب الأب ابنه: "أوري أي تاجر أنت؟ في المفاوضات، عليك اقتراح الحد الأدنى وطلب الحد الأعلى. يجب البدء بالتفاوض، وفي النهاية يمكن التوصل إلى اتفاق يناسب كلا الطرفين. وأنت تريد أن نقدم كل شيء مسبقا، قبل بدء المفاوضات؟". فأوضحت له أن أقواله ملائمة للصفقات العادية، ولكن ليس عندما يجري الحديث عن مصير الشعوب. (في ذلك الوقت، علمني وزير التجارة والصناعة، حاييم تسدوك، وهو محام ذكي جدا، درسا في السياسة الصهيونية، وسألته أي مناطق من الأراضي المحتلة توافق الحكومة على إعادتها للفلسطينيين. فأجاب: "ببساطة، لن نعيد أيا منها إذا استطعنا، ولكن إذا تعرضنا لضغط فسنعيد أقل ما يمكن. وإذا واجهنا ضغطا كبيرا فسنعيد مناطق أكثر. وإذا مورس علينا ضغط كبير فسنعيد كل المناطق المحتلة"). في تلك الفترة، كانت تعني كلمة "إعادة" إرجاع الأراضي إلى الأردن. كان علينا إعادة القطاع إليه أيضا لأن مصر لم ترد استعادة الأراضي. لم نواجه ضغطا حقيقا لهذا لم نرجع شيئا. تذكرت هذه الأقوال عندما شاهدت الحلقة الثانية من المسلسل الرائع الذي أعده أفيف دروكير عن رؤساء الحكومة الإسرائيليين الأوائل. بعد بن غوريون وصل دور ليفي إشكول. يصف دروكير إشكول بصفته سياسيا محبوبا وفاشلا، ضعيفا في الوقت ذاته، سنحت له الفرصة أن يصبح رئيس حكومة عند اندلاع الحرب الأهم في تاريخ إسرائيل، والتي بلورت نتائجها مصير الدولة حتى يومنا هذا. أصبحت إسرائيل دولة عظمى كبيرة في المنطقة، لديها أراضي محتلة واسعة في الجنوب، الشرق، والشمال. لقد عمل إشكول بناء على توجيه السياسيين المتمردين واتخذ قراراته في ظل الضغط الذي مارسوه عليه. هكذا صُمم الوضع الإسرائيلي الحالي صدفة. كل الحقائق التي يعرضها دروكير صحيحة تماما، فالمقاطع التي تتحدث عن إشكول صحيحة مثلما تحدث عن بن غوريون، وهي تتضمن معلومات جديدة هامة لم أعرفها سابقا أيضا. ولكني لست متأكدا أن وصف شخصية إشكول في هذا المسلسل صحيح تماما. رغم أنه كان محبوبا، متواضعا، ومعتدلا، إلا أنه لم يؤمن بالأيدولوجية الصهيونية. بعد أن أصبح بن غوريون لا يُطاق، وبعد أن أقيل من منصبه، عُيّن إشكول رئيسا للحكومة، بعد الحصول على موافقة عامة من حزب العمل. قبل ذلك كان إشكول مسؤولا عن الاستيطان. كان أهم ما عمل عليه هو تشجيع الاستيطان اليهودي على الأراضي التي سُلبت من العرب. نشأت بيننا علاقة غريبة إلى حد معين. كنت "الصبيّ السيء" في الكنيست، وجزءا من حزب المعارضة المتطرف. كان يكرهني ممثلو حزب العمل جدا. ففي قاعة الجمعية العامة للكنيست اختاروا لي مقعدا بالقرب من منصة الخطابات. لم يكن هذا المكان جيدا لالتقاط الصور، ولكنه رائعا للمقاطعة خلال الخطابات. كانت خطابات إشكول فظيعة وأثارت دهشة المبدعين في الكتابة. فلم تكن هناك بداية ولا نهاية للجمل التي قالها. عندما قاطعته، نسي ما أراد ذكره وتوجه إلي بشكل ودي. عندها غضب أصدقاؤه من الحزب. ولكني كنت واقعيا. بادرت الحكومة برئاسته إلى قانون "التشهير" للقضاء على المجلة الأسبوعية "هعولام هزيه" التي كنت محررها. كره حزب العمل هذه المجلة وكرهني أيضا، وقد دفعني القانون الجديد إلى الترشح للكنيست. عندما بدأت الأزمة في عام 1967، تردد إشكول الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة ووزير الدفاع في قرارته. هددت ثلاثة جيوش عربية إسرائيل، ولم يكن من المؤكد أن تدعم الولايات المتحدة إسرائيل عند شن هجوم. استمرت الأزمة ثلاثة أسابيع وازداد الخوف في إسرائيل. لم يكن إشكول ملائما لشغل منصب زعيم أثناء الحرب. ففي ذروة الأزمة، قرر إلقاء خطاب عبر الراديو لرفع معنويات الجمهور. وقرر وزير في حكومته، يدعى يسرائيل غاليلي تحسين النص مجريا بعض التعديلات بخط يده عليه. لم يخطط إشكول لإلقاء خطاب ولم يقرأ النص مسبقا. لهذا عندما وصل إلى النص الذي جرى تعديله بدا متوترا. عندها ظهر أنه غير واثق بنفسه، لهذا قرر الجمهور أن عليه التخلي عن منصبه أو على الأقل ألا يكون وزير الدفاع. تظاهرت مجموعة من النساء تدعى "زوجات وندسور المرحات" تمينا باسم مسرحية لشكسبير في الشوارع. عندها خضع إشكول للضغط فشغل موشيه ديان منصب وزير الدفاع بدلا منه. حقق الجيش الإسرائيلي الذي كانت لديه معدّات حصل عليها من إشكول طيلة سنوات نصرا حاسما. أصبح ديان الذي يرى بعين واحدة فقط بطلا كبيرا، تحلم به كل امرأة حول العالم، رغم أنه ساهم قليلا في الانتصار. لقد نجح بشكل أساسيّ في رفع معنويات الجيش. عندما انتهى كل شيء ظلت مكانة إشكول منخفضة في الرأي العام. رغم أنه يمكن أن ندعي أنه حقق نصرا حقيقيا، بفضل مساهمته في استعدادات الجيش وقرارته الرزينة، فلم يحظ بالمجد مثل سائر الأبطال. أصبحت إسرائيل دولة عسكرية. وبات الأبطال أبطالا عالميين. وحظي ديان بالتقدير، رغم أن قدراته العسكرية كانت ضئيلة. وبعد عامين من انتهاء الحرب، مات إشكول موتا مفاجئا. كان هذان العامان مصيرين لأنه كان يتعين على إسرائيل أن تتعامل مع نتائج الحرب المفاجئة. لم يجرَ جدال حقيقي. اقترح صديقي وأنا أيضا إقامة دولة فلسطينية. لم يدعم فكرتنا أحد في البلاد وخارجها أبدا. عندما زرت واشنطن، عارض كل رؤساء الإدارة الأمريكية الفكرة بحزم. وعارض الاتحاد السوفياتي وهو الحزب الشيوعي في البلاد هذا الاقتراح أيضا. أحد الادعاءات هو أن "عرب الأراضي المحتلة" (لم يتحدثوا عن "الفلسطينيين") أرادوا العودة إلى الأردن. لهذا زرت الأراضي المحتلة وألتقيت زعماء محليين وسألتهم في نهاية كل لقاء: "إذا كنت قادرا على الاختيار بين العودة إلى الأردن أو إلى دولة فلسطينية، أيهما ستختار؟". أجاب الجميع، وهناك من تردد: "إلى دولة فلسطين طبعا". عندما تحدثت عن هذه النتائج في الكنيست، ادعى موشيه ديان الذي شغل حينها منصب وزير الدفاع، أن تصريحاتي كاذبة. وعندما طرحت القضية ثانية ودار جدال بيني وبين رئيس الحكومة، دافع إشكول عن وزير الدفاع في حكومته. ولكن إشكول قام بخطوة فريدة من نوعها. فقد اتصل بي مستشاره لشؤون العرب، موشيه ساسون، وطلب أن نلتقي معا. فاجتمعنا في مقهى لأعضاء الكنيست. "طلب مني رئيس الحكومة أن أسالك إلى ماذا تستند ادعاءاتك"، قال لي. أخبرته عن لقاءاتي مع الزعماء العرب في الضفة الغربية، القدس الشرقية، وقطاع غزة. فسجل بروتوكولا مفصّلا أرسل مسودة منه إليّ قبل أن يقدّمها إلى المسؤولين عنه. جاء في نهايته: "جرى بين عضو الكنيست أفنيري وبيني اتفاق تام على كل التفاصيل. ولكننا اتفقنا أن ليس هناك أي احتمال أن تقام دولة فلسطينية من دون القدس الشرقية. بما أن الحكومة قررت الحفاظ على القدس بأكملها كعاصمةٍ لإسرائيل في كل اتفاقية سلام، فلا يمكن تحقيق فكرة إقامة دولة فلسطينية"، (في الفترة الأخيرة نقلت هذا المستند إلى المكتبة القومية). طالب اليمين في حكومة مناحم بيجن ضم الأراضي إلى إسرائيل الكبرى ولكنه كان بعيدا عن الحكومة وتعامل معه القلائل بجدية. لهذا ظل "الخيار الأردنيّ" متاحا. كان هناك اقتراح لإعادة الضفة الغربية إلى الأردن، شريطة أن تظل القدس الشرقية تحت السيطرة الإسرائيلية. بدت هذه الفكرة جنونية ونابعة من جهل تام للقضايا العربية. فقد كان ملك الأردن من نسل العائلة الهاشمية، عائلة النبي محمد. وكانت فكرة أن يتنازل عن القدس، المدينة الثالثة بقدسيتها في الإسلام، والتي صعد منها النبي محمد إلى السماء مضحكة. ولكن لم يكن إشكول مطلعا على الشؤون العربية كسائر الوزراء. لقد ورد اسم رئيس الحكومة الوحيد الذين كان يدرك القضايا العربية قليلاً جدًا في مسلسل رافيف دروكير، وهو موشيه شاريت. كان شاريت رئيس الحكومة الثاني وتطرق إليه دروكير قليلا. عندما قرر بن غوريون الاستقالة والعيش في سديه بوكير، اختار الحزب شاريت ليحل مكانه. احتاج بن غوريون إلى سنة ليقرر إذا كان يريد أن يصبح رئيس الحكومة. لهذا عاد لشغل منصب وزير الدفاع، وبعد وقت قليل عاد إلى مكتب رئيس الحكومة أيضا. كان هناك اختلاف بين شاريت وبن غوريون في كل النواحي تقريبا. لم يحدث صدفة أن دروكير ذكره قليلا. فهو يعتبر ضعيفا وهامشيا. وبينما كان يعتبر بن غوريون ذكيا، شجاعا، ومغامرا، كان يعد شاريت جبانا ومحتقرا. ولكن عاش شاريت الذي وصل من أوكرانيا في سن 12 عاما، لمدة عامين في منطقة عربية. خلافا لكل رؤساء الحكومة، تحدث العربية، وفهم العرب. وحتى أنه يبدو عربيا إلى حد معين، ولديه شارب معتنى به جيدا. عندما عاد بن غوريون من سديه بوكير، كانت لديه فكرة لامعة: اجتياح لبنان، وتعيين دكتاتور مسيحي ماروني وجعل الأردن الدولة العربية الأولى التي توقّع على اتفاقية سلام مع إسرائيل. كان شاريت رئيس الحكومة وأعتقد أن هذه الفكرة حمقاء. ولكنه لم يجرأ على معارضة بن غوريون علنا. فقد سجل كل الأمور في يومياته وذكر بالتفصيل كل الأخطاء التي تتضمنها البرنامج الذي لم يطبق. بعد مرور جيل كامل أعد أريئيل شارون، صديق بن غوريون البرنامج ذاته. وتضمن "حرب لبنان الأولى". كانت النتائج كما توقعها شاريت تماما. ولكن ذلك لم يحسّن ماضي شاريت. لقد التقينا ذات مرة بالقرب من القلعة. وكنا على وشك التسلق إلى أعلى الجبل مشيا على الأقدام. فاستغرقنا ساعة وخمس دقائق حتى وصلنا، وهذا توقيت جيد لرجل في عمره. تحدثت عن ذلك في مجلة "هعولام هزيه" ولكن سجلت خطأ 105 دقائق. فغضب شاريت وأرسل إليّ رسالة رسمية طالب فيها أن أصحح الخطأ. فاستجبت لطلبه طبعا. مات شاريت في سن 71 عاما وكان محبطا. أعتقد أنه كان يستحق دون شك حلقة كاملة في المسلسل الرائع لرفيف دروكير. |