|
||
وماذا كان أول شيء فعله بعد هذا الانتصار الرائع؟ لقد هرع إلى مؤتمر اللوبي المؤيد لإسرائيل، "إيباك"، وألقى هناك خطابا من المداهنة والتملق فاق كل الذروات. هذه حقيقة مثيرة للعجب. وحقيقة أكثر إثارة هي أنه أحدا ما لم يتعجب. بدا ذلك طبيعي للغاية. كان هذا المؤتمر مؤتمرا كبير النجاح. يبدو أيضا أن هذه المنظمة التي أحرزت نجاحات كبيرة لم تر حتى الآن مثيل له. 7000 من الوصوليين اليهود قد تجمّعوا من جميع أرجاء الولايات المتحدة لكي يتلقوا خنوع العلية السياسية في واشنطن التي جاءت لتسجد. كل المرشحين الثلاثة للرئاسة ألقوا خطابات وكانوا يتنافسون فيما بينهم من ناحية قوة التملّق. 300 سيناتور وأعضاء كونغرس اكتظوا في الردهات. كل من أراد أن يتم انتخابه لمنصب ما، كل من كان قد انتخب ويريد أن يُعاد انتخابه، كل من لديه تطلع سياسي أي كان أتى ليكتظ لكي يروه ولكي يبدو بارزا. واشنطن التابعة "لإيباك" كانت تبدو أشبه بقسطنطينية القياصرة البيزنطيين في ذروة جلالهم. لقد رأى العالم وفغر فاه متعجبا. لم تتعجب وسائل الإعلام الإسرائيلية فحسب. في جميع عواصم العالم سجلوا واستخلصوا العبر. في جميع وسائل الإعلام العربية قدموا تقارير مُوسّعة. لقد خصصت قناة الجزيرة ساعة كاملة للجدل حول أهمية الظاهرة. تمت المصادقة على استنتاجات البروفيسورين جون ميرشايمر وستيفان وولت كاملة. عشية قدومهما إلى إسرائيل، يوم الخميس القادم، وقف اللوبي اليهودي في مركز الحياة السياسية في الولايات المتحدة والعالم. لماذا بالفعل؟ لمذا يؤمن مرشحو الرئاسة في الولايات المتحدة أن دعم اللوبي الإسرائيلي حيوي إلى هذا الحد لانتخابهم؟ صحيح أن أصوات اليهود مهمة، وخاصة في بعض الولايات التي يمكنها فيها أن تحسم المنافسة. ولكن الجمهور الأفرو-أمريكي يتمتع بكمية أصوات أكبر، وكذلك الجمهور الهسباني. لقد أحضر أوبيما إلى الحلبة السياسية ملايين الناخبين الشباب الجدد. الجمهور العربي المسلم في الولايات المتحدة ليس عاملا مهما من الناحية العددية. يقولون أن الأموال اليهودية هي التي تتكلم. اليهود أثرياء. قد يكون أنهم يتبرعون لأهداف سياسية أكثر من غيرهم. ولكن لأسطورة الأموال اليهودية القادرة على كل شيء هذه رائحة لا سامية مرافقة. فحتى أنواع اللوبي الأخرى، وبالأساس لوبي الشركات الضخمة متعددة الجنسيات، قد تبرعت لأوبيما (ولمنافسيه) بمبالغ كبيرة. وأوبيما ذاته يتفاخر بأنه جعل مئات آلاف المواطنين الصغار يرسلون إليه تبرعات صغيرة، تراكمت للتحول إلى عشرات الملايين. صحيح أنه قد ثبت أن اللوبي اليهودي يمكنه دائما تقريبا أن يمنع انتخاب سيناتور أو عضو كونغرس لا يرقص – وبحماس – على أنغام الناي الإسرائيلي. في بعض الحالات مثلا (وهدفها بالفعل أن تكون مثالا) أسقط اللوبي سياسيين يحظون بالشعبية، حين ركّز كل قوته السياسية والمالية من أجل انتخاب المنافس غير المعروف. ولكن في السباق على الرئاسة؟ التزلّف الشفاف من قبل أوبيما أمام اللوبي الإسرائيلي يبرز أكثر من تزلّف المرشحين الآخرين. إن نجاحه الباهر في الانتخابات التمهيدية قد نبع برمّته من وعده بإحداث تغيير، أن يضع حد للروتين المتعفن من قبل السياسيين في واشنطن وأن يُبدل المتفذلكين المسنين برجل شاب، لا يتنازل عن مبادئه. وها هو، في خطوته الأولى بعد أن انتخب مرشحا، يتنازل عن المبادئ. إنه يتنازل بالتأكيد! إن العمل الكبير الذي نفذه والذي كان وجه الاختلاف بينه وبين هيلاري كلينتون وجون ماكين كان معارضته الشديدة للحرب على العراق منذ اللحظة الأولى. لقد كان ذلك بمثابة جرأة. كان الأمر غير شعبي. كان يتعارض تماما مع اللوبي اليهودي، الذي عملت كل أذرعه بشكل مكثف من أجل دفع جورج بوش للحرب، التي أزالت التهديد العراقي عن إسرائيل. وها هو أوبيما يأتي اليوم ويتعفر بالرماد أمام أقدام "الإيباك"، ويفعل كل ما في وسعه كي يبرر السياسات التي تتعارض ومبادئه تماما. نحن لا نتحدث عن الوعد في الحفاظ، من دون شروط وبكل الظروف، على أمن إسرائيل. هذا أمر مقبول. نحن لا نتحدث عن التهديدات المعتمة ضد إيران، على الرغم من أنه هو ذاته قد اقترح منذ فترة لقاء زعيمها وتسوية المشاكل بطرق سلمية. نحن لا نتحدث عن أنه وعد بإرجاع جنودنا الأسرى الثلاثة (حين اعتقد، خطأ، أن ثلاثتهم محتجزين بين أيدي حزب الله - الأمر الذي يشهد على معرفة سطحية في أمورنا). ولكن أقواله عن القدس تكسر كل الحواجز. لن يكون من المبالغ به أن نقول: إنها فضيحة. لا يوجد فلسطيني، لا يوجد عربي، لا يوجد مسلم ليصنع السلام مع إسرائيل إذا لم ينتقل الحرم القدسي الشريف، أحد ثلاثة أقداس الإسلام ورمز رموز الوطنية الفلطسينية، ليكون تحت السيادة الفلسطينية. هذه إحدى المشاكل الجوهرية في الصراع. بسبب هذا الموضوع انهار عام 2000 مؤتمر كامب ديفيد، على الرغم من أن رئيس الحكومة إيهود باراك كان مستعدا لتقسيم القدس بشكل ما. يأتي أوبيما الآن ويخرج من القمقم شعار "القدس الموحدة، عاصمة إسرائيل إلى أبد الآبدين". منذ مؤتمر كامب ديفيد أدركت كل حكومات إسرائيل أن هذا الشعار يضع عائقا لا يمكن تخطيه أمام أية عملية سلمية. لذلك، اختفى – بهدوء، وبالسر تقريبا – من قاموس الشعارات الرسمية. اليمين الإسرائيلي فقط (واليهودي الأمريكي) ما زال متشبثا به، ولنفس السبب: لوأد أي احتمال للسلام، يؤدي إلى تفكيك المستوطنات. لقد اكتفى المرشحون-المتملقون، في المعارك الانتخابية السابقة في الولايات المتحدة بالوعد بنقل السفارة في إسرائيل إلى القدس. ولكن أيا من المرشحين لم يفي بوعده هذا حين وصل إلى البيت الأبيض. تم إقناع جميعهم، من قبل وزارة الخارجية الأمريكية أن الأمر يتعارض والمصالح الأمريكية الأساسية. لقد ابتعد أوبيما إلى أبعد من ذلك بكثير. من الممكن ألا تكون هذه سوى ضريبة كلامية، وأنه يقول في نفسه: أو كي، علي أن أقول ذلك لكي أصل إلى البيت الأبيض. بعد ذلك الله كبير. ولكن في هذه الحال أيضا، يجب عدم تجاهل الحقيقة: إن الرعب الذي يدبه "إيباك" هو كبير إلى حد لا يجرؤ فيه هذا المرشح الذي يعد بتغيير في كل المجالات، لا يجرؤ على فعل ذلك. إنه يمشي في ثلم الروتين الأسوأ في هذا المجال في واشنطن. إنه مستعد للتضحية بالمصالح الأمريكية الجوهرية، فالولايات المتحدة معنية بالسلام الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي سيتيح لها إيجاد مسالك إلى قلب الجماهير العربية من العراق وحتى المغرب. لقد مس بصورته في العالم الإسلامي، ورهن مستقبله – إذا انتخب رئيسا. قبل 65 عاما، كان يهود أمريكا لا حول لهم ولا قوة حين أبادت ألمانيا النازية أخوتهم في أوروبا. لم يكن في قوتهم أن يجعلوا الرئيس فرانكلين روزفلت أن يفعل شيئا هاما لوقف الكارثة. (وفي الفترة ذاتها لم يجرؤ معظم السود في أمريكا حتى على الاقتراب من صناديق الاقتراع، لئلا يحثون الكلاب على مهاجمتهم.) ما الذي أدى إلى ارتفاع شأن قوة المؤسسة اليهودية بهذا الشكل الكبير؟ هل هي القدرة التنظيمية؟ هل هو المال؟ هل هو الارتقاء في التدريج الاجتماعي؟ هل هو الخجل من تقاعسهم مقابل الكارثة؟ كلما أمعنت التفكير في هذه الظاهرة المثيرة للعجب، كلما تعزز لديّ الاستنتاج (الذي كنت قد كتبت عنه في الماضي) بأن ما يقرر حقا هو وجه الشبه الكبير بين المشروع الأمريكي والمشروع الصهيوني، سواء من الناحية الروحانية أو من الناحية العملية. إسرائيل هي نوع من أمريكا صغيرة، والولايات المتحدة هي نوع من إسرائيل كبيرة. أفراد "المايفلور" ، مثلهم مثل أفراد القدوم الأول والثاني إلى إسرائيل، قد هربوا من الملاحقة في أوروبا، وكانت في قلبهم رؤيا متدينة أو يوتوبية. (صحيح أن الصهيونيين الأوائل كان معظمهم من الملحدين، ولكن التقاليد الدينية قد أثرت كثيرا على رؤياهم). الآباء المؤسسون لأمريكا كانوا حجاج، وكان الصهيونيون الأوائل قادمون جدد. كل من الطرفين قد أبحروا باتجاه "أرض الميعاد"، إيمانا منهم بأنهم شعب الله المختار. كل منهم اجتاز في بلاده الجديدة مصاعب جمّة. كلاهما رأى في نفسه طلائعي، منبت للصحراء، بمثابة "شعب من دون أرض لأرض من دون شعب". كلاهما تجاهل تمام حقوق الشعوب أبناء البلاد، الذين كانوا من وجهة نظرهم، قتلة وبشر متخلفون. كلاهما رأى في المقاومة الطبيعية من قبل أبناء المكان إشارة لطابعهم الإجرامي، الذي يبرر أيضا الأفظع من بين البشاعات. هؤلاء وهؤلاء قد طردوا المحليين، استلبوا أراضيهم كأمر مفهوم ضمنا، واستوطنوا على كل تلة وتحت كل شُجيرة، بينما في إحدى يديهم محراث وفي اليد الأخرى التوراة. صحيح أن إسرائيل لم تفعل مع الفلسطينيين شيئا يقترب إلى إبادة الشعب الذي نفذت ضد الهنود الحمر. لم يعرف الاستيطان العبري ذات مرة فظاعة مثل العبودية متعددة الأجيال في أمريكا. ولكن لأن الأمريكيين قد أبعدوا هذه الفظائع عن وعيهم، فهي لا تقضّ مضجعهم في مقارنة أنفسهم بالإسرائيليين. يبدو أنه في العقل الباطن لدى كل من الشعبين هناك أحاسيس بالذنب تم إخمادها، وهي تتجسد في إنكار الماضي، في العدائية وفي استخدام القوة. كيف حدث أن شخصا مثل أوبيما، ابن لأب أفريقي، يتعاطف تماما مع ما اقترفته أجيال من الأمريكيين البيض؟ يبين هذا الأمر مرة أخرى ما مدى قوة تجذر الأسطورة في نفس الإنسان، حتى أنه يبدأ بالتعاطف تماما مع الرواية الوطنية التي يتم تخيلها. أضف إلى ذلك التطلع غير الواعي إلى الانتماء إلى المنتصرين، إذا كان الأمر ممكنا. لذلك أنا لا أوافق، من دون تحفظ، على المقولة القائلة: "حسنا، إنه مجبر على التحدث بهذا الشكل ليتم انتخابه. ولكن في اللحظة التي سيصل فيها إلى البيت الأبيض فسيعود إلى نفسه." أنا لست واثقا بذلك. قد تكون لهذه الأمور علاقة وثيقة وأكثر عمقا بالعالم النفسي لهذا الرجل. أنا واثق من أمر واحد: أقوال أوبيما في مؤتمر "إيباك" سيئة جدا لاحتمالات السلام. وما هو سيء للسلام، سيء لإسرائيل سيء لأمريكا وسيء للشعب الفلسطيني. إذا تشبث بها، فسيضطر إلى القول، حين يؤون الأوان، بكل ما يتعلق بدفع السلام قدما بين الشعبين في البلاد:"No, I Can't!" |