|
||
لقد حدث هذا للمرة الأخيرة قبل عشرين عاما، حين رفض المحامي في حينه تقديم لائحة اتهام ملائمة ضد الضابط الذي أمر جنوده بكسر أيدي وأرجل معتقل فلسطيني مقيدًا بالأكبال. ادعى الضابط أن ما فهمه من دعوة وزير الدفاع، إسحق رابين، "بكسر عظامهم". وها هو الأمر يحدث هذا الأسبوع مرة أخرى. أصدرت المحكمة قرارا، يشكل صفعة رنانة على وجنة المدعي العسكري العام الحالي، أفيحاي مندلبليط. جرى الحادث الذي يجري الحديث عنه في قرية نعالين، التي تم استلاب جزء كبير من أراضيها بواسطة الجدار الفاصل. تجرى أسبوعيا في قرية نعالين، كما في القرية المجاورة بلعين، مظاهرة ضد الجدار الفاصل. عادة ما يكون رد فعل الجيش في نعالين أكثر همجية وعنفا منه في قرية بلعين. تم قتل أربعة متظاهرين حتى الآن. أقدم المقدم عمري بوربرغ على الإمساك بأحد المتظاهرين المحليين الذي تم اعتقاله، تقييده وإجلاسه على الأرض في حين كانت عيناه مغطيتان، وقال لأحد جنوده "لنذهب إلى إحدى النواحي ونطلق عليه العيارات المطاطية". لقد أصدر أمره للجندي بإطلاق عيار مطاطي عليه، من مسافة صفر. لمن لا يعرف: "العيار المطاطي" هو كرة فولاذية مغطاة بالمطاط. يؤدي إلى جرح مؤلم، إذا تم إطلاقه عن بعد عشرات الأمتار. أما من مسافة قريبة فيمكن له أن يكون فتاكا. من الناحية الرسمية، يُحظر على الجنود استخدامه من مسافة تقل عن أربعين مترا. قام الجندي، من دون تردد، بإطلاق العيار على رجلي المعتقل، على الرغم من أن هذا الأمر "كان أمر غير مشروع"، ووفق قوانين الجيش الإسرائيلي يُحظر الانصياع له. بموجب التعريف الكلاسيكي الذي أدلى به القاضي بنيامين هليفي في محاكمة مجرمي كفر قاسم، فإن فوق مثل هذا الأمر ترفرف "راية سوداء من عدم القانونية". لقد أصيب المعتقل أشرف أبو رحمة وسقط على الأرض. إن ذوي الأقدمية في المظاهرات في قريتي بلعين ونعالين يعلمون أن مثل هذه الأحداث وأحداث تشبهها تحدث هناك كل الوقت. ولكن حادثة أبي رحمة هي حادثة فريدة من نوعها لسبب واحد: لقد تم توثيقها بالصور من قبل إحدى المقيمات المحليات من على شرفة بيتها المجاور لمكان الجريمة، بواسطة آلة تصوير حصلت عليها من "بتسيلم". وإضافة إلى جرائم هذا المقدم هناك خطيئة كبيرة أخرى: لقد تم تصويره أثناء التنفيذ. حين يكشف نشطاء السلام النقاب عن مثل هذه الحوادث فإن الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي يستلّ، عادة، من جعبة أكاذيبه هذه الذريعة الكاذبة أو تلك ("هاجم الجندي"، "حاول الإمساك بسلاح الجندي"، حاول الهرب"). ولكن حتى المتحدث البارع بلسان الجيش يواجه صعوبة في إنكار ما يبدو واضحا في الصورة. عندما قرر المدعي العسكري العام تحويل الضابط والجندي إلى محاكمة عسكرية جراء "تصرفات غير لائقة"، توجه أبو رحمة ومنظمات حقوق الإنسان إلى محكمة العدل العليا حيث نصح القضاة المدعي العام بتغيير البند. حين رفض المدعي العام، تم تحويل القضية إلى محكمة العدل العليا للمرة الثانية. أصدرت هذا الأسبوع هيئة مؤلفة من ثلاثة من قضاة المحكمة العليا (شملت الهيئة قاضية وقاض متدين)، قرارا استثنائيا من ناحية صرامته (شملت على قاضي وقاضية متدينين) مفاده أن لائحة الاتهام جراء "تصرفات غير لائقة" هي لائحة اتهام غير لائقة بتاتا. لقد أمروا بمحاكمة الضابط والجندي محاكمة جنائية بموجب بند أكثر صرامة، بهدف التوضيح للضباط والجنود جميعا أن التنكيل بمعتقل "يتنافى وروح الدولة والجيش". بعد مثل هذه الصفعة، كان من شأن شخص آخر أن يخفي وجهه خجلا وأن يستقيل من منصبه. ولكن مندلبليط لا يفعل ذلك. إن المقدم طويل اللحية والذي يعتمر "الكبيا" هو صديق لرئيس الأركان، غابي أشكنازي، وينتظر في أي لحظة ترقيته إلى رتبة عميد. منذ مدة وجيزة، رفض المدعي العسكري العام تحويل ضابط ذي رتبة عالية إلى المحاكمة، حيث صرح في المحكمة، خلال شهادته لصالح أحد المرؤوسين من قبله، أنه يُسمح بضرب الفلسطينيين. إن أشكنازي مدين بالشكر لمدعيه العام، وذلك لسبب آخر. لقد عتّم مندلبليط بكل ما أوتي من قوة على جرائم الحرب التي ارتكبت خلال حرب غزة، بدءا من أسلوب أشكنازي ذاته في القتال وانتهاء بجرائم الجنود الأفراد. لم يتم تحويل أي شخص إلى المحاكمة أو التحقيق معه بشكل جدي. في اليوم الذي نُشر فيه قرار المحكمة العليا بحق عميحاي مندلبليط، تصدر مقدّم آخر العناوين الرئيسية. المدهش في الأمر هو أنه ذو لحية، متدين واسمه عميحاي أيضا. في خطاب ألقاه الحاخام العسكري العام، عميحاي رونتسكي، أمام جنديات متدينات أنه حسب رأيه "خدمة الفتيات في الجيش ليست "منذ البداية"". باللغة الدينية، "ليست منذ البداية" تعني منعا باتا. بما أن من واجب كل فتاة في إسرائيل أن تخدم بموجب القانون لمدة سنتين، والنساء يؤدين وظائف عديدة هامة في الجيش، فقد كان ذلك بمثابة قول فظيع. غير أنه لم يندهش أي شخص من أقوال هذا الحاخام. تم تعيين رونتسكي في منصبه من قبل رئيس الأركان السابق، دان حالوتس. إن الغراب هو من عيّن الزرزور. لم يولد الحاخام في عائلة متدينة. لقد كان علمانيا على الإطلاق، فرد من نخبة الجيش الإسرائيلي، كان قد رأى النور وارتد إلى الدين. مثله مثل العديد من الأشخاص على شاكلته، لم يتوقف في وسط الطريق، بل واصل إلى الطرف الأكثر تطرفا. لقد تحول إلى مستوطن وأقام حلقة تعليم دينية "يشيفاه" في إحدى المستوطنات الأكثر تعصبا. كان رونتسكي ملائما كليا لروح الرجل الذي عينه في منصبه العالي. قال الجنرال حالوتس، كما نذكر، أنه لا يشعر بأي شيء حين يلقي قنبلة على مناطق سكنية، ما عدا ضربة خفيفة في جناح طائرته. في النقاش حول السؤال: هل يجب معالجة فلسطيني جريح يوم السبت، كتب العميد رونتسكي أن "حياة غير اليهود لها أهميتها بالتأكيد... ولكن أهمية يوم السبت تغلب عليها" أي بما معناه: يمنع معالجة الجرحى من "غير اليهود" يوم السبت. (وقد تراجع عن أقواله فيما بعد). يوجد لدى الجيش كما معروف، شيء يدعى "الكود الأخلاقي". على الرغم من أن واضع هذا الكود هو البروفيسور أسا كاشر، برّر كل فظائع "الرصاص المصبوب"، إلا أن رونتسكي ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير: لقد أقر بشكل حازم أنه "عند وجود مواجهة بين... الكود الأخلاقي وقوانين الشريعة، فمن المؤكد أنه يجب الانصياع إلى الشريعة." جاء في منشور نشره أن "هناك منع أشبه بالوصية في التخلي عن مليمتر واحد من أرض إسرائيل". أي أن الحاخام العسكري، العميد في الجيش الإسرائيلي، يقرّ بأن السياسة الرسمية لحكومته – ابتداء من خطة الانفصال وانتهاء بخطاب بنيامين نتنياهو الأخير حول "دولة فلسطينية منزوعة السلاح" - هي خطأ لا يُغتفر. ولكن ما وصل إلى الذروة كانت كرّاسة نشرتها الحاخامية العسكرية بين الجنود خلال الحرب على غزة: "حين ترحمون عدوا شرسا، فإنكم تقسون على جنود طيبين ونزهاء. الحرب كما في الحرب." هذه دعوة علنية للقتال الشرس. يمكن أن نرى في ذلك تحريضا لإنجاز أعمال تشكل جرائم حرب – تلك الأعمال التي قام زميله، المدعي العسكري العام، بتغطيتها بكل ما أوتي من قوة. لم يكل أي من العميدين ليبقى في منصبه بعد مثل هذه الأعمال لولا أنهما يتمتعان برعاية رئيس الأركان. الجيش هو مؤسسة هرمية، وتقع المسؤولية عن كل ما يحدث فيه، بشكل مباشر وكامل، على عاتق رئيس الأركان. خلافا لسابقيه، فإن غابي أشكنازي لا يُبرز نفسه ولا يكثر من التحدث بشكل علني. إذا كانت لديه تطلعات سياسية، فهو يخفيها بشكل جيد. ولكن في فترة توليه لمنصبه، يلبس الجيش طابعا معينا، وهذان الضابطان هما ممثلا هذا الطابع. هذا الأمر لم يبدأ، بطبيعة الحال، في فترة أشكنازي. إنه يتواصل – وربما يزيد حدة – وهذا توجه نشط منذ سنوات، وقد غير صورة الجيش الإسرائيلي بشكل لا يتيح التعرف عليه. كما هو معروف، كتب مؤسس الصهيونية، بنيامين زئيف هرتسل، في كتابه التأسيسي للحركة، "دولة اليهود": "سنعرف كيف نبقي كهنة الدين لدينا في الكُنُس، كما سنعرف كيف نبقي جيشنا الدائم في القواعد العسكرية... لن نسمح لهم بالتدخل بشؤون الدولة". إن ما يحدث الآن هو العكس: لقد انخرط الحاخامون في الجيش، والضباط يأتون من الكُنُس. إن نواة المستوطنين الصلبة، التي يكاد يكون كل أعضائها من المتدينين (والعديد منهم "ارتدوا إلى الدين") قد قررت منذ فترة طويلة أن عليها احتلال الجيش من الداخل. وبواسطة عمل منهجي، يتواصل باندفاع كبير، ينخرطون في صفوف سُلة الضباط من الأسفل – من رُتب الضباط الأدنى، مرورا بالمتوسطة، وانتهاء بالرتب العالية. يمكن أن نتتبع هذه الحملة بشكل إحصائي: بين سنة وأخرى يتزايد عدد معتمري الكيبا في الدورات. كان أبناء الكيبوتسات، في سنوات الجيش الإسرائيلي الأولى، هم الذين يحتلون صفوف القيادة. ناهيك عن أن أبناء الكيبوتسات كانوا يعتبرون نخبة المجتمع العبري الجديد، الذي يتركز على قيم أخلاقية وحضارية بشرية عامة، وناهيك عن أنه كانوا أوائل المتطوعين في أي مهمة وطنية، إلا أنه كان لهذا الأمر سبب "تقني" مبني. لقد ولد الجيش الإسرائيلي من داخل "البلماح". كانت وحدات البلماح – وهو الجزء المنظم من جيش غير قانوني في الاستيطان العبري – قادرة على البقاء والتصرف في الكيبوتسات فقط، حيث كان بإمكانها هناك أن تموّه هويتها. على أية حال، معظم القادة المتميزين تقريبا في حرب عام 1948، كانوا من أفراد البلماح، من أبناء الكيبوتسات أو لهم علاقة بالكيبوتس. لقد فعل هؤلاء كل ما في وسعهم لإكساب الجيش الجديد طابع جيش شعبي، طلائعي، ذي روح أخلاقية وإنسانية، وهو النقيض التام لجيش الاحتلال. صحيح أن الواقع كان مختلفا دائما، ولكن القيم المثلى كانت مهمة وبمثابة هدف يجدر أن نصبوا إليه. وكما بيّنت منذ عام 1950 في كتابي "الوجه الآخر للعملة"، فإن "أخلاقيات السلاح" كانت دائما بمثابة أسطورة. ولكن مجرد طموح الجيش لأن يكون جيشا ذا قيم إنسانية كان أمرا هاما. لقد حاولوا إخفاء الأعمال الوحشية وإنكارها، لأنها كانت تعتبر مخزية وتدنّس المعسكر. لم يبق من ذلك شيء، سوا الأقوال المأثورة. منذ بدء الاحتلال في عام 1967، تغير طابع الجيش الإسرائيلي تغييرا جذريا. لقد تحول الجيش الذي تم تأسيسه لحماية الدولة من الأخطار الخارجية إلى جيش احتلال، وظيفته هي قمع شعب آخر، كسر مقاومته، مصادرة أراضيه، حماية سالبي الأراضي الذين يطلق عليهم اسم مستوطنين، المرابطة على الحواجز، إذلال بني البشر يوميا. من الواضح أن التغيير لم يكن من نصيب الجيش وحده، بل كان من نصيب الدولة كلها، والتي يقوم الجيش بتنفيذ أوامرها والتي يتم فيها إجراء غسل دماغ متواصل. إن في مثل هذا الجيش عملية من الخيار الطبيعي. فالأشخاص ذوو الأخلاقيات العالية والإنسانية، الذين يشمئزون من هذه الأعمال، يتسربون عاجلا أم آجلا. يحل محلهم أشخاص من نوع آخر، يحملون قيمًا أخرى أو لا قيم لديهم بتاتا، "مهنيون" يحولون أنفسهم إلى "منفذي أواخر". يُمنع التعميم بطبيعة الحال. حتى في جيش اليوم هناك أشخاص غير قلائل يعتبرون وظيفتهم بمثابة رسالة، ولا ينظرون إلى "الكود الأخلاقي" على أنه مجموعة من الأقوال المأثورة، أشخاص يرتعدون ويشمئزون مما تراه أعينهم. نحن نسمع، بين الحين والآخر، احتجاجهم ونشعر بما يشعرون به. ولكن هؤلاء لا يحددون الإيقاع، إنما من يحدد الإيقاع هم أشخاص على شاكلة رونتسكي ومندلبليط. يجدر بنا جميعا أن نقلق لهذا الأمر. ممنوع علينا أن ننظر إلى الجيش وكأنه مملكة غريبة، ما يجري فيها لا يمت إلينا بصلة. ممنوع علينا أن نقول لأنفسنا: "لا نريد أي تعامل مع جيش بوغي يعيلون، شاؤول موفاز، دان حالوتس وغابي أشكنازي." ممنوع علينا أن ندير ظهرنا للمشكلة. علينا أن نعالجها، لأنها في صميمنا. الدولة بجاجة للجيش. حتى عندما سنحرز السلام، فسنكون بحاجة إلى جيش هوي ومدرّب لحماية هذا السلام، حتى يضرب جذورها عميقا ونتوصل في منطقتنا إلى وضع يشبه الوضع القائم في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. الجيش هو نحن. جوهره يؤثر على جوهر حياتنا جميعا، على جوهر الحياة في دولتنا. وقد قيل في الماضي: "إسرائيل ليست جمهورية موز، إنها جمهورية تتزحلق على الموز". وأي موز هذا! |