|
||
في السنوات الأولى بعد حرب حزيران نزلت فيه ضيفا مرارا عديدة. إن عملي في الكنيست أرغمني على البقاء ليلتين اثنتين في الأسبوع على الأقل في القدس، وانتقلت بعد الحرب من فنادق تقع في الجانب الغربي المدينة إلى فنادق تقع في الجانب الشرقي منها. فضلت فندق "شفرد" على سائر الفنادق. كنت أشعر وكأنني في بيتي. إن سحر الفندق الخاص لم يكمن في موقعه فحسب، في وسط المدينة العربية وهو أمر أثار في داخلي حب استطلاع لا حدود له، غرفه مرتفعة السقف وأثاثه العتيقة، بل كذلك، وبالأساس، شخصية مالكتي الفندق أيضا، امرأتان عربيتان متقدمتان في السن كنّ قد ترعرعتا في بيروت وتأثرتا بالثقافة الفلسطينية- اللبنانية. موقع الفندق في وسط حي حمولة الحسيني. تمتد أملاك هذه العائلة، التي يبلغ تعداد أفرادها أكثر من 5000 نسمة، على جزء كبير من حي الشيخ جراح وتشمل "الأوريينت هاوس" الأسطوري أيضا. عائلة الحسيني هي إحدى العائلات الأرستقراطية المقدسية، ولربما الأكثر مكانة بينها (وبالتأكيد هذا من وجهة نظرها هي). طيلة مئات السنوات شغل أبناء العائلة أحد أهم ثلاث مناصب على الأقل في القدس: منصب المفتي الكبير، رئيس البلدية أو وكيل الأوقاف الإسلامية. قام ببناء "شفرد" (الراعي) الحاج أمين الحسيني، المفتي الذي قاد التمرد العربي في ثلاثينات القرن الماضي وهو أكثر رجل يكرهه السكان اليهود في ذلك الوقت. قضيت ساعات ممتعة مع السيدتين، تعلمت منهما الكثير وتعلقت بالمكان. غضبت غضبا شديدا حين تم إقفال الفندق. لا أعرف كيف أصبح هذا العقار تابع لملكية المليونير الأمريكي، ملك نوادي البينغو، وهدفه المعلن هو إقامة أحياء يهودية في كافة أنحاء القدس العربية. وهو يرغب الآن في إقامة حي يهودي على أرض "شفرد". ولكن مشكلتي ليست معه. بل هي مع بنيامين نتنياهو. هدف نتنياهو هو تهويد القدس. لقد تفاخر هذا الأسبوع أنه في فترة توليه السابقة، قبل عشر سنوات، أقام الحي اليهودي المحصن في جبل "هار حوماة". لدي ذكريات أيضا في "هار حوماه" – واسمه الحقيقي هو جبل أبو غنيم. قضيت أيامًا وليال كثيرة في نضال من أجل منع إقامة الحي الوحشي الذي ينصب فيه حاليا. كان قائد هذا النضال هو فيصل الحسيني، فيصل الذي لا يُنسى. إنني أكنّ له احتراما كبيرا. ولا أتردد للحظة في القول أنني أحببته. كان رجلا شريفا بكل ما في هذه الكلمة من معنى: فهو من عائلة جديرة بالاحترام ويتحلى بسِمات التواضع، كريم ومحبوب، رجل سلام ومقاتل شجاع في المواجهات مع جنود الاحتلال، وطني فلسطيني حقيقي، آراؤه معتدلة، حكيم وشجاع. كان نجل عبد القادر الحسيني، قائد القوات الفلسطينية في لواء القدس في حرب عام 1948، الذي قتل في معركة الكاستل. لم أشارك في تلك المعركة، ولكنني مررت بالمكان بعد عدة ساعات من المعركة، كنت في مقدمة قافلة إمدادات إلى القدس الغربية المحاصرة. فأنا ككثير من زملائي كنت أكنّ له الاحترام كعدو عادل. كان "هار حوما"، لمن كاد أن ينسى، بمثابة بقعة جمالية مميزة بين القدس وبيت لحم، جبل مستدير مكسوّ بالغابات الكثيفة. قرر المفسدون في القدس، ذلك التحالف البلطجي من ملوك العقارات، المكون من العنصريين المتطرفين، المليونيرات الأمريكيين والمتدينين المصابين بالهوس، تدمير تلك البقعة الجمالية المتبقية الأخيرة من نوعها، ليبنوا مكانها حيا مكتظا، محصنا ووحشيا بشكل خاص. بزعامة فيصل وتعامرة، زوج لأميرة أردنية سابقة، تمت إقامة معسكر خيام هناك. حين بدأت الجرافات قطع أشجار الحرشية وتعرية قمة الجبل، أجرينا مظاهرات وأقمنا ورديات كثيرة. لقد أصبت في إحدى المظاهرات بنزيف دموي وكدت أقضي هناك، وبفضل سيارة إسعاف فلسطينية ونجاح الطاقم فيها في الوصول إلى المنطقة، على الرغم من الطريق الوعرة، تم نقلي إلى المستشفى قبل فوات الأوان، ولذلك فلديّ ذكريات تربطني بالمكان. الاستفزازات المتعلقة بفندق "شفرد"، هي جزء من جهود لا تعرف الكلل "لتهويد" القدس. بكلمات بسيطة: إنجاز تطهير عرقي فيها. يتواصل هذا الجهد منذ 42 سنة، منذ اليوم الأول لاحتلال القدس الشرقية، ولكن توقيت هذه الحملة في هذه المرة نابع من اعتبارات تكتيكية. يقف نتنياهو أمام ضغط أمريكي كبير في مسألة تجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية. إنه لا يملك أية قدرة على القيام بذلك، ما دام يترأس الائتلاف الحالي الذي اختاره، المركّب من يمينيين، متعصبين متديّنين، مستوطنين وفاشيين. اقترح نتنياهو "تسويات" مختلفة، ترتكز جميعها على عروض مخادعة متنوّعة، ولكن الأمريكيين قد تعلموا من التجارب السابقة ولم يسقطوا في الفخ. إن توأمه السيامي، إيهود براك، ينشر في وسائل الإعلام المجندة "أنباء" عن حملة عظيمة: ستخلي لتوَها، دفعة واحدة، عشرات البؤر الاستيطانية التي أقيمت منذ عام 2001 بدعم سري من الحكومة. فيما عدى الإعلاميين ذاتهم، لا يوجد أي شخص تقريبا يمكنه أن يصدّق حدوث ذلك على أرض الواقع. فكم بالحري المستوطنون ذاتهم، الذين يردّون على الإشاعات بابتسامة ماكرة. إذن، ما الذي يجب فعله للامتناع عن إخلاء البؤر الاستيطانية؟ إن لدى نتنياهو، ملك الحِيَل، الدواء الشافي: إحداث استفزاز جديد لنسيان المسألة السابقة. فندق "شفرد" يموّه الاهتمام الدولي الآن عن تلال "يهودا والسامرة". حين تعاني من آلام الأسنان، فإنك تنسى آلام البطن. ما الأمر، يتساءل نتنياهو، هل سيمنعنا غير اليهود من البناء في القدس، مدينتنا المقدسة؟ عاصمتنا الأبدية، التي تم توحيدها إلى أبد الآبدين؟! يا لها من وقاحة! هل سيمنعون اليهود من البناء في نيويورك؟! هل سيمنعون الإنجليز من البناء في لندن؟! وصلت ادعاءات نتنياهو ذروتها بادعائه أن كل عربي مقدسي يمكنه أن يسكن في القدس الغربية، فلماذا لا يسمح لليهود بإقامة بيت في القدس الشرقية؟ خير الكلام ما قل ودل، وكان كاذبا تماما. حين يتفوه نتنياهو بمثل هذه الأقوال، يصعب علينا أن نعرف فيما إذا كان ينشر الأكاذيب عن سابق قصد (حتى وإن سهُل كشفها)، أو لربما يصدّق أكاذيبه بنفسه. على سبيل المثال، حين قال أنه يتذكر الجنود البريطانيين، منذ فترة طفولته، الذين حكموا البلاد، على الرغم من أنه وُلد بعد عام واحد من جلاء آخر جندي بريطاني عبر ميناء حيفا. في الحقيقة، فيما عدا حالات نادرة بشكل استثنائي، لا يمكن لأي عربي مقدسي أن يمتلك مسكنا في القدس الغربية، فكم بالحري أن يبني بيتا، وذلك على الرغم من كون أجزاء كبيرة من القدس الغربية هي أحياء عربية، نزح سكانها أو طردوا خلال حرب عام 1948. أصحاب المنازل في هذه الأحياء (طلبية، كتمون، دير ياسين والعديد من الأحياء الأخرى)، الذين وجدوا ملاذا لهم في القدس الشرقية، لم يسمح لهم بالعودة إلى منازلهم، حتى عندما تم "توحيد" المدينة عام 1967، حتى أنه لم تدفع لهم التعويضات (كما اقترحت في الكنيست ذلك). ولكن ليس مهما كثيرا لدى نتنياهو أن نصدّقه أو لا. لقد كان مشغولا، هذا الأسبوع كما في غيره من الأسابيع منذ عودته إلى السلطة، في صراع البقاء. من أجل البقاء، يجب على ائتلافه أن يصمد. ولتحقيق ذلك، عليه أن يثبت أنه لا "يتراجع" أمام الضغط الأمريكي. ولا يوجد مكان أفضل من القدس لإثبات ذلك. لأنه بالنسبة للقدس – كما يعود ويصرح المتحدثون باسم السلطة صباحا ومساء- بالنسبة للقدس هناك إجماع وطني. إجماع شامل. من اليمين وحتى اليسار. ولكن هذه الأسطورة قد أكل عليها الدهر وشرب. لا يوجد أي إجماع كهذا. معظم الجمهور الإسرائيلي مستعد اليوم، لإرجاع الأحياء العربية في القدس الشرقية إلى سيطرة فلسطينية، مقابل سلام حقيقي. لم اسمع عن أم يهودية واحدة مستعدة للتضحية بابنها في حرب على فندق "شفرد". أنا أربد تكذيب أسطورة أخرى، يتم نشرها الآن بشكل منهجي في جميع وسائل الإعلام في الدولة: أن هناك إجماع إسرائيلي يتبلور ضد الرئيس أوبامأ. لا دببة ولا غابة (أي لا أساس لذلك من الصحة - المترجم). أو بكلمات أكثر عصرية: لا عصافير ولا أحذية. يأمل إسرائيليون كثيرون، كثيرون جدا، بأن ينجز أوباما من أجلهم ما يبدو مستحيلا من دونه: أن يأتي إليهم بالسلام. لقد يئسوا من المنظومة السياسية الإسرائيلية، من الائتلاف ومن المعارضة، من اليمين ومن اليسار. إنهم يعتقدون أن قوة عليا خارجية فقط يمكنها أن تحقق لهم هذا الأمل. إذا حدثت مصادمة بين أوباما ونتنياهو، بسب رفض الأخير تجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية وبسبب استمرار الاستيطان في القدس الشرقية، فإن إسرائيليين كثيرين سيتضرعون إلى الله لنجاح أوباما بالذات. إنهم يدركون أنه ليس نتنياهو هو الذي يمثل المصلحة الحقيقة لإسرائيل في هذه المعركة، بل أوباما. السوأل الذي يطرح نفسه هو هل يمتلك أوباما قوة الصمود حتى النهاية، ما لم يحققه أي رئيس أمريكي منذ دويت أيزنهاور. نتنياهو يؤمن بغير ذلك. شركاؤه الأمريكيون، الجمهوريون الذين تلقوا ضربة، المحافظون الجدد المستترون والدعاة الإنجيليون الذين صمتوا - هذا المعسكر المندحر كله، يأمل في أن يعيد بناء نفسه بواسطة حث اللوبي اليهودي وحكومة إسرائيل على استفزاز أوباما. أما نتنياهو، الذي قام بتفعيل الكونغرس في الماضي ضد البيت الأبيض، فإنه يعتقد أنه سينجح في ذلك هذه المرة أيضا. تروي الصحف الإسرائيلية بشغف عن أفول نجم أوباما بين أوساط الجمهور الأمريكي، مرفقة رسومًا بيانية. لا يصعب التكهن بأن مصدر معظم هذه المعلومات يعود إلى وزارة الخارجية التي يترأسها أفيغدور ليبرمان. يقوم المصدر ذاته بتزويد وسائل الإعلام الأمريكية بروايات عن ازدياد معارضة الجمهور الإسرائيلي لأوباما. سيأتي يوم قريب وستظهر في وسائل الإعلام الأمريكية صور متظاهرين إسرائيليين، يحملون صورا لأوباما وهو يرتدي زي الإس إس، مثل ياسر عرفات وإسحق رابين من قبله. لا تدور رحى المعركة حول 20 بؤرة استيطانية، ولا حول 20 شقة سكنية في ساحة فندق "شفرد". إن كل منزل في المستوطنات في الضفة الغربية هدف يشكل هدفا ساميا واحدا: إحباط أي احتمال للسلام. كل بيت إسرائيلي في القدس الشرقية هو بمثابة الهدف السامي ذاته. معارضو السلام يعرفون أنه ما من زعيم عربي أي كان سيوقع على معاهدة سلام لا تقرّ بأن القدس الشرقية هي عاصمة دولة فلسطين، وما من زعيم عربي سيوقع على معاهدة سلام لا تقرّ باسترجاع الضفة الغربية كلها إلى دولة فلسطين. لذلك تقع على كاهل براك أوباما مسؤولية تاريخية: عدم التراجع، عدم التنازل، عدم "المساومة". التمسك بالمطالبة التامة بتجميد المستوطنات، كخطوة أولى وضرورية نحو السلام. من أجله ومن أجلنا. بصفتي إسرائيلي، أقول له مناشدا: نعم، أنت قادر! |