|
||
النضال للحفاظ على جودة البيئة، من أجل مستقبل الكرة الأرضية. النضال لتحقيق الديمقراطية، ضد التيارات الفاشية على أنواعها. النضال في سبيل حقوق الإنسان وحقوق المواطن. النضال النسوي. النضال من أجل حقوق مثيلي ومثيليات الجنس. النضال لصالح العدل والتضامن الاجتماعي. النضال من أجل المساواة في حقوق الجمهور العربي في الدولة. النضال ضد التمييز الطائفي. النضال ضد سيطرة الدين على الدولة. النضال من أجل حقوق الحيوان. وغيرها وغيرها وغيرها وغيرها. ما هو القاسم المشترك في كل هذه النضالات؟ كلها تابعة للعالم الروحاني الليبرالي، الـ"متقدّم". كل واحد منها هو أهل بأن يسلّم له الإنسان، وخاصة الشاب، قلبه وروحه. ولكن، في نهاية الأمر، كلها أصبحت تُستخدم اليوم كبديل للنضال الأساسي، النضال في سبيل السلام مع الفلسطينيين. هنالك خطر بأن تتحول جميع هذه النضالات إلى ما يشبه "مدن لجوء" للمثاليين الشباب، الذين يكرّسون أنفسهم لهدف سام، ولم تعد لديهم القدرة على تكريس أنفسهم للنضال الأساسي. بما أن كل واحد من هذه النضالات مهم بالفعل، ومُعد لهدف جيد، فلا يمكن انتقاد الناشطين من أجلها. هنالك العشرات من المنظمات العاملة في هذه المجالات، وآلاف الأشخاص المتميّزين، من النساء والرجال، الكبار والشباب، الذين يكرسون جُل نشاطهم وطاقاتهم من أجل نضالاتهم. أنا أيضا كنت مستعدًا أن أكرس نفسي، بمحض إرادتي، لصالح كل واحد من هذه النضالات. لولا كون كل هذه النضالات، جميعها وكل على حدة، تأتي الآن على حساب النضال من أجل السلام. أعتقد أن السلام يتربع على مرتبة أعلى من كل ما تبقى من الأهداف، وليس فقط لأن نجاح سائر النضالات متعلق بنتائج هذا النضال الواحد والوحيد. تخلق الحرب اللانهائية واقعا من الاحتلال والقمع، من القتل والدمار، من الوحشية والعنف، من الانحلال الأخلاقي والهمجية العامة. هل يمكن في واقع كهذا تحقيق أي مثالية عُليا؟ هل من الممكن، مثلا، دفع الموضوع النسوي قدما في دولة تحكمها عسكرية شوفينية مطلقة العنان؟ هل يمكن إنقاذ الحيوانات من التعذيب في حين يجري تعذيب البشر بشكل روتيني؟ هل يمكن إنقاذ الأودية والغابات، العصافير والنمور، في حين يجري تفجير وقصف أحياء سكنية بالفسفور الأبيض؟ السؤال الأساسي هو، بالطبع، لماذا يهرب أصحاب الضمير من رؤيا السلام. هذه حقيقة: كاد السلام يتحول لدينا إلى كلمة بذيئة. لا يريد أي شخص عادل أن يظهر بصحبته. يُمنع ذكره في حديث سياسي لبق. يجري الناس مناورات كلامية، بهلوانية حقا، لكي يتجنبوا هذه الكلمة. يتحدث السياسيون عن "نهاية النزاع"، "المكانة الدائمة" و "التسوية السياسية"، شريطة أن لا يحتاجوا إلى الكلمة المرفوضة. لماذا؟ أولا، تم استغلال كلمة "السلام" كثيرا إلى درجة أنها فرغت تقريبا من مضمونها. من كثرة سوء الاستخدام، فقد تم سحقها لتتحول إلى فتات. من الممكن تغيير المقولة الكلاسيكية للمفكر البريطاني، الدكتور صمؤيل جونسون، وأن نقول أن " السلام هو الملاذ الأخير للوغد" لدينا. أو كشعار مملكة الشر في كتاب جورج أورويل، 1984: "الحرب هي سلام". في الكثير من الأحيان، استفاق الأمل في السلام، وخاب هذا الأمل في أحيان كثيرة أخرى، إلى درجة أن مجرد الأمل قد أصبح هو ذاته يولد الشك والتخوف. ماذا جرى لأكبر الآمال، اتفاقية أوسلو والمصافحة التاريخية؟ ماذا جرى لسفرية إيهود باراك الرنانة إلى كامب ديفيد؟ لا يمكن أن نطلب من شخص عادي بحث ما جرى هناك في الواقع ومن هو المتهم. لأنه يرى الحقائق المجرّدة فقط: لقد رجوّنا السلام، وحصلنا على الحرب. وصلت الأمور إلى درجة أنه حتى حركات السلام ذاتها أصبحت تقلق من ذكر هذه الكلمة في تصريحاتها. هي أيضا تبحث عن كلمات مرادفة (وهي كلمات مُلاحِقة) لتجنُّبها. وجهة النظر العامة هي أنه يُمنع التوجه إلى الشباب والتحدث معهم عن السلام. لا قدر الله لنا. إنهم متأكدون من أن الحرب هي حالة دائمة، وأن السلام ما هو إلا وهم، طرفة جوفاء قديمة. إنهم على قناعة بأنه قد حُكم عليهم، على أبنائهم وأحفادهم، (إذا بقوا هنا)، أن يقاتلوا المرة تلو الأخرى، إلى الأبد. إنهم لا يريدون تضييع وقتهم في تفاهات مثل السلام. من الأفضل لهم المحافظة على النمور في صحاري يهودا والنسور في هضبة الجولان، من ملاحقة حمامة السلام التي لم يشعروا قط. يتفاخر اليساريون بأن حل "دولتين لشعبين"، الذي كان ذات مرة جنون قلة من أصحاب الرؤيا، قد تحوّل الآن إلى إجماع دولي. إنه بالفعل انتصار كبير. ولكنه يضمحل أمام انتصار اليمين، الذي استطاع تحويل "ما من شريك لنا إلى السلام" رؤيا وطنية. وبلغة عصرية: السلام "آوط"،، كل ما تبقى "إن". قرر هذا الأسبوع جدعون ليفي، في حديث تلفزيوني، أنه لا يوجد في الكنيست الحالية أي عضو يهودي، أهم ما لديه هو السلام. هنالك من يذكر في هذا السياق نيتسان هوروفيتس، عضو الكنيست الجديد التابع لميرتس. لقد عمل لسنوات طويلة كمحلل تلفزيوني للشؤون الدولية، وقام بنقل العدوى إلى الجمهور عن طريق تحمّسه لكل نضال من أجل السلام والعدالة في العالم. كلامه المنفعل، مع ميله إلى التعاطف مع الضعفاء، أكسباه محبة الجمهور. وها هو، منذ وصوله إلى الكنيست، وكأن حماسه قد تلاشى. يخوض هوروفيتس الآن صراع جبابرة ضد حملات البيع في حوانيت الكتب. والسلام؟ الاحتلال؟ يُمنع ذكرهما. هذا صحيح بالنسبة لكتلة ميرتس بأكملها، التي كانت في أيام ازدهارها حزب السلام الصهيوني بكل معنى الكلمة ولكنها قد أعلنت إفلاسها. لكي تستعيد عافيتها، فإنها تخفي موضوع السلام قدر الإمكان. في حال لم يكن هنالك مناص من ذكره، فإنها تفعل ذلك كاليهودي الذي يقبّل عضادة الباب أو كالمسيحي الذي يرسم إشارة الصليب، ثم تتابع طريقها مسرعة. إن ما يثير الاهتمام هو، كيف حدث ذلك. حين قامت شلوميت ألوني بتأسيس الحركة عام 1973، عشية حرب يوم تشرين، كانت بالأساس مناضلة من أجل حقوق الإنسان. امتازت بشكل خاص في الكفاح ضد الإكراه الديني ومن أجل حقوق النساء. احتل السلام لديها مكانة ثانوية. غير أنها كونها زعيمة ميرتس سرعان ما أدركت أنه ليس بوسعها تحقيق أهدافها في عالم تسوده الحرب، وأخذ موضوع السلام يحتل، بشكل تدريجي، مكانة مركزية آخذة بالتعاظم في آرائها. حين توسع الحزب وتحوّل من حزب "راتس" إلى حزب "ميرتس"، تحوّل إلى كتلة السلام الصهيونية الرائدة، تحوّل أمل اليسار الصهيوني. وفي السنوات الأخيرة، انعكست الآية، كما يحدث في فيلم فيديو يتم تمريره إلى الخلف. تم إقصاء السلام عن مركز جدول أعمال ميرتس اليومي وكاد يختفي. وعاد الحزب ليكون حزبًا من أجل حقوق المواطن. وفي هذه الأثناء، انخفض عدد أعضاء الكتلة من اثني عشر عضو كنيست إلى ثلاثة أعضاء. شن اليمين الإسرائيلي، المموّل من قِبل مليارديرات أمريكيين يمينيين من اليهود والمسيحيين الإنجيليين، هذا الأسبوع، هجوما قاضيا على "صندوق إسرائيل الجديد"، الذي يتبرع بسخاء لمعظم النضالات الجيدة المذكورة آنفا. أقول بصراحة: لم تحصل "كتلة السلام" منه في يوم من الأيام على قرش واحد. يتهرب الصندوق من حركات السلام كما من النار. إلا أن هذا لا يساعده. فاليمين يلاحقه. من يهتم بحقوق الإنسان "فقط" لن ينجو من هذا المصير أيضا. مدن اللجوء ليست مُحصّنة. سيعود موضوع السلام إلى مركز الحلبة، لأنه سيحدد مصيرنا - مصيرنا كأفراد وكدولة. لا يمكن أن نتهرب منه. يُمنع بالطبع التنازل عن نضالات جميع تلك الأهداف الهامة، حتى حين يتصدّر التخلص من الاحتلال وترسيخ السلام قمة سلم أولويات جميع الأهداف. أنتظر يوما يتوحد فيه جميع المشاركين في هذه النضالات ويوّحدوا فيه موارد قواهم البشرية، انفعالهم، مواهبهم، شجاعتهم ودهاءهم، وخاصة قوتهم في تكريس نفسهم للفكرة والرؤيا، لمُجمّع واحد، لنزاع مكثف من أجل إسرائيل الأخرى، حيث يشكّل النزاع لصالح السلام نصل رماحه. وبحركة مشتركة كبيرة تغذي وتكمل جميع النضالات الجزئية بعضها البعض. معًا تقوم بإدارة النضال الحاسم، النضال من أجل تأسيس الجمهورية الإسرائيلية الثانية. |