اوري افنيري 

رجل الحجر ورجل الذهب


ثمة ما هو تراجيدي-كوميدي في شخصية رتشارد غولدستون.

في البداية، كانت هنالك عاصفة من الغضب لدى نشر تقرير غولدستون الأصلي.

ياله من حقير! يهودي يتظاهر بالصهيونية ومحبة إسرائيل، يقوم بنشر أكثر القضايا تعقيدا حول جنودنا الشجعان، لإسعاد أسوأ اللا ساميين في مختلف أنحاء العالم! هذه هي شخصية مثالية ليهودي يكره نفسه. الأسوأ من ذلك، "خائن" - يهودي يشي اليهود أمام غير اليهود الأشرار، أكثر الشخصيات مقتا في الفلكلور اليهودي!

والآن - جاء التحول. غولدستون، اليهودي التائب. غولدستون الذي يعترف علنا أنه أخطأ طيلة الوقت. أن الجيش لم يرتكب أية جرائم في حملة "الرصاص المصبوب". بل على العكس من ذلك، في حين أجرى الجيش الإسرائيلي تحقيقات حقيقية ومتشددة إزاء جميع الادعاءات ضده، لم تحقق حماس في أي واحدة من الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها.

تحوّل غولدستون، رجل الحجر، إلى غولدستون، رجل الذهب. رجل الضمير. إنسان يستحق الإعجاب.

كانت الكلمة الأخيرة، بطبيعة الحال، لبنيامين نتنياهو، الذي أشار إلى أن القضية برمّتها تثبت مجددا أن الجيش الإسرائيلي هو أكثر جيوش العالم أخلاقية.

أنا أشفق على القاضي غولدستون. فمنذ البداية، جعلوه في حالة غير محتملة.

مؤسسة الأمم المتحدة، التي عينته في منصب رئيس اللجنة التي تحقق في الادعاءات أن الجيش الإسرائيلي ارتكب جرائم حرب خلال الحملة، كانت قد تصرفت على ما يبدو وفق اعتبار منطقي، لكن ذلك كان عملا أبله. لقد أعد تعيين يهودي جيد، وكذلك صهيوني متشدد، لينقض مسبقا أي ادعاء يسيء إلى إسرائيل تقوم اللجنة بنشره.

لقد قام غولدستون وجميع أعضاء اللجنة دون شك بعمل مخلص ودقيق. لقد قاموا بفحص الأدلة التي طرحت أمامهم واستخلصوا العبر التي لا بد منها. غير أن جميع الأدلة تقريبا جاءت من فلسطينيين وناشطي هيئة الأمم المتحدة في القطاع. لم تستطع اللجنة استجواب ضباط جيش الدفاع وجنوده، لأن حكومتنا، بتصرف أحمق وروتيني إلى حد ما، رفضت التعاون.

لماذا؟ الافتراض الأساسي هو أن كل العالم ضدنا، ليس بسبب أفعالنا وإنما لكوننا يهودا. نحن نعلم أننا صادقون، "وأنهم" جاءوا ليفتروا علينا افتراءات كاذبة. ّإذن لما التعاون مع هؤلاء اللا ساميين الأنذال، وكم بالحري مع يهودي يكره نفسه؟

يعترف اليوم جميع أصحاب التأثير في إسرائيل تقريبا أن هذه كانت حماقة. لكن لا يوجد أي ضمان بأن يتصرف قادتنا بطريقة مخالفة في المرة القادمة، خاصة في ضوء الحقيقة أن الجيش يعارض بشدة مثول جندي أمام محفل غير إسرائيلي - أو في الحقيقة، أمام محفل إسرائيلي أيضا.

لنعد إلى غولدستون الخطير. بعد نشر التقرير الذي يحمل اسمه، لم تعد حياته حياة.

لقد صب الجيتو اليهودي كل غضبه على الخائن الذي نهض من داخله. اعترض اليهود على دخوله إلى الكنيس الذي أجريت فيه حفلة البار متسفا لحفيده. أدار له أفضل أصدقائه ظهورهم. لقد ابتعد عنه جميع الأشخاص الذين كان يقدرهم.

إذن فقد راجع أفعاله واكتشف أنه أخطأ طيلة الوقت. كانت استنتاجاته أحادية الجانب. لقد كان من شأنه أن يصدر قرارا مختلفا لو استمع إلى الرأي الإسرائيلي في القصة. بحث جيش الدفاع الادعاءات ضده باستقامة، في حين لم تحقق حماس البربرية على الإطلاق في جرائم الحرب المرعبة التي ارتكبها.

إذن متى أخطأ غولدستون؟ في المرة الأولى أم الثانية؟

الإجابة هي، للأسف الشديد، أنه أخطأ في كلتا الحالتين.

إن مجرد المصطلح "جريمة حرب" هو أمر يثير مشكلة. الحرب بحد ذاتها جريمة، ولا يمكن تبريرها إلا إذا كانت تلك هي الوسيلة الأخيرة المتبقية لمنع جريمة أكبر - كالحرب ضد أدولف هتلر، ومثل الحرب الآن - مع آلاف مؤلفة من الفوارق - ضد معمر القذافي.

لقد ولد مصطلح "جريمة حرب" بعد حرب الثلاثين عاما، التي قضت على مركز أوروبا. كانت الفكرة أنه بالفعل لا يمكن منع العمليات الوحشية، إذا كانت ضرورية للانتصار في الحرب، لكن العمليات الوحشية ممنوعة إذا لم تكن مطلوبة لهذا الغرض. المبدأ ليس مبدأ أخلاقيا، بل عمليا. إن قتل الأسرى والمدنيين هو جريمة حرب، لكونه لا يخدم أي هدف عسكري، ناهيك عن أن الطرف الآخر أيضا سيتصرف بهذه الطريقة هو أيضا. كذلك الأمر بالنسبة للتدمير الموجه للأملاك العامة.

في إسرائيل، وجد هذا الأساس له تعبيرا في قرار الحكم التاريخي لبنيامين هليفي في محاكمة مجزرة كفر قاسم، التي قتل فيها عشرات الفلاحين البسطاء، من الرجال، النساء والأطفال. أقر القاضي أن "راية سوداء" تحوم فوق الأوامر غير القانونية "الواضحة" - بما معناه، الأوامر التي يعرف الإنسان البسيط أيضا أنها غير قانونية، دون أن يحتاج إلى استشارة محام. منذ ذلك الحين، يعتبر الانصياع إلى أمر كهذا جريمة بموجب القانون الإسرائيلي.

لا يكمن السؤال الحقيقي بالنسبة لـ "الرصاص المصبوب" فيما إذا قام أفراد من الجنود بارتكاب جرائم كهذه. من الواضح أنهم قد نفذوا - يتألف كل جيش من أنواع مختلفة من بني البشر، ابتداء بالشباب الشرفاء وأصحاب الضمير وانتهاء بالساديين والمتخلفين المصابين بعدم الوعي الأخلاقي. إذا أعطيت جميعهم سلاحا ورخصة للقتل، فالنتيجة متوقعة مسبقا. لذلك أيضا "فالحرب هي جهنم".

المشكلة بالنسبة لحرب لبنان الثانية وحملة "الرصاص المصبوب" هي أن التوجه الأساسي لكليهما حوّل جرائم الحرب إلى جرائم لا يمكن منعها. لم يكن المخططون وحوشا - لقد أنجزوا عملهم فقط. لقد جمعوا معطيين معا. كانت النتيجة لا بد منها.

كان أحد المعطيات هو الحاجة لمنع الخسائر في طرفنا. يوجد لدينا جيش شعبي، يأتي جنوده من جميع طبقات الشعب (مثل الجيش الأمريكي في فيتنام، لكن ليس في أفغانستان). يتناول الرأي العام عندنا الحروب وفق عدد الجنود (جنودنا) الذين قتلوا وجرحوا. لذلك فالتعليمات الموجّهة للمخططين العسكريين هي القيام بما يمكن فعله لكي يدنوعدد خسائرنا من الصفر.

المعطى الثاني هو التجاهل المطلق لإنسانية الطرف الثاني. أنشأت السنوات المتتالية من الاحتلال جيشا أصبح يعتبر الفلسطينيين والعرب عامة ما هم إلا أهداف. ليسوا أعداء من البشر، حتى أنهم ليسوا كائنات بشرية، فقط أغراض، عناصر.

يؤدي بالضرورة هذان التوجهان إلى عقيدة استراتيجية وتكتيكية تستوجب استخدام القوة الفتاكة مع كل إنسان وكل شيء من المحتمل، بطريقة ما، أن يشكّل خطرا على جنودنا أثناء تقدمهم في منطقة العدو - تدمير كل عائق على الأرض قبل أن يصل إليه الجنود. إذا أمكن الأمر عن بُعد، بالمدافع وبالطائرات.

عندما يكون العدو حركة مقاومة تعمل في منطقة مكتظة بالسكان المدنيين، فيمكن حساب النتائج تقريبا بطريقة رياضية. قتل في "الرصاص المصبوب" ما لا يقل عن 350 مواطن، من بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى 750 من مقاتلي حماس. من الجانب الإسرائيلي قتل 5 (خمسة!) جنود بنار العدو (إضافة إلى ستة "بنار ودية").

لم تنقض هذه النتيجة الهدف السياسي للحملة: تشكيل ضغط على سكان غزة ليسقطوا حماس. من الواضح أن ذلك لم يحدث. بل على العكس.

المنطق ذاته - وموازنة الخسائر ذاتها - كانا في حرب لبنان الثانية، إضافة إلى دمار شامل للبنى التحتية المدنية.

في أعقاب تقرير غولدستون، قام الجيش بالفعل بإجراء تحقيقات شاملة لأحداث منفردة. الرقم يثير الإعجاب، أما النتيجة فلا تثير الإعجاب. تم التحقيق في 150 حالة، أدين جنديان (أحدهما بالسرقة) وتم اتهام أحد الضباط أنه قتل - عن طريق الخطأ- حمولة كاملة.

يبدو أن ذلك يكفي غولدستون، الذي وافق هذا الأسبوع على تلقي دعوة لزيارة البلاد لدى إيلي يشاي، وزير الداخلية، الذي هو ربما الأكثر عنصرية في حكومة كلها مرتع للعنصريين. (عندما قام أتباع يشاي بتسريب الأمر، تراجع غولدستون وبلغ أنه لن يسحب تقريره).

من جانب آخر، صب غولدستون غضبه على حماس، لإطلاقه صواريخ وقذائف تجاه مواطنين إسرائيليين ولم يتم إجراء أي تحقيق. إن ذلك سخيف نوعا ما: قياس أحد أقوى خمسة جيوش في العالم بالمقياس الذي تُقاس به جماعة صغيرة من المقاتلين غير المنتظمين ("الإرهابيين") الذين يحملون سلاحا قليلا.

الإرهاب هو سلاح الضعفاء. ("أعطوني دبابات وطائرات، ولن استخدم العبوات الناسفة"، قال فلسطيني ذات مرة). لأن كل استراتيجية حماس العسكرية هي تشكيل ضغط على المجتمع الإسرائيلي على امتداد القطاع لإقناع إسرائيل بوضع حد للاحتلال (ووضع حد للحصار على غزة أيضا)، فإن غضب غولدستون مفاجئ بعض الشيء.

في نهاية الأمر، شق غولدستون الطريق إلى حملة الرصاص المصبوب 2، التي ستكون أسوأ بكثير.

آمل أن يتمكن غولدستون الآن من الصلاة في أي كنيس يرغب به.