اوري افنيري 

ربيع عالمي


سأعود للقصة عن تشو آن-لاي، الزعيم الشيوعي الصيني. عندما تم سؤاله عن رأيه في الثورة الفرنسية، أجاب، كما هو معروف: "من المبكر جدا الإجابة!"

اعتُبر هذا مثالا نموذجيا للحكمة الصينية القديمة - حتى ادعى أحدهم أنّ تشو لم يقصد إطلاقا الثورة الفرنسية عام 1789، بل الأحداث التي عصفت بفرنسا في أيار 1968، قبيل إجراء المقابلة.

قد يكون مبكرا جدا الآن أيضا الحكم على تلك الأحداث، التي اقتلع فيها الطلاب الجامعيون حجارة الرصيف في شوارع باريس، اصطدموا بالشرطة الوحشية، وأعلنوا بداية حقبة جديدة. كان ذلك إعلانا ترويجيا لما يحدث الآن في كل العالم.

ثمة أسئلة كثيرة. لماذا؟ لماذا في هذا الوقت بالذات؟ لماذا في بلدان كثيرة إلى هذا الحد، ومختلفة إلى هذا الحد؟ لماذا في البرازيل، تركيا، ومصر في آن واحد؟

نعرف كيف ابتدأ ذلك. في سوق في تونس، دون غيره من أماكن العالم. كنتُ هناك مرارًا عديدة، حينما مكث ياسر عرفات في تلك المدينة. بدا السوق لي دائمًا مكانًا بهيجًا، صاخبًا، مفعمًا بالتجار اللطفاء، السياح المساومين، والرجال المحليين الذين تزين زهور الياسمين آذانهم.

في هذا المكان، اصطدمت شرطية ببائع خضار، وقلبت عربته. شعر الرجل بالإذلال عميقًا في داخله، وأحرق نفسه. هكذا ابتدأت الأحداث التي جنّدت ملايين البشر حول الأرض.

تبنت الجماهير المصرية النموذج التونسي، حيث اجتمعت في ميدان التحرير، وأسقطت طاغيتها. بعد ذلك، حل دورنا، وخرج نحو نصف مليون إسرائيلي إلى الشوارع. ثم بدأت الاضطرابات في سورية، اليمن، البحرين، ودول عربية أخرى، أحداث دعيت معًا "الربيع العربي". في الولايات المتحدة، قامت حركة الاحتلال ("احتلوا وول ستريت") التي أنتجت ميدان تحريرها في قلب نيويورك. يتظاهر حاليا الملايين في تركيا والبرازيل، كما تشتعل مصر مجددًا. يمكن إضافة إيران وأماكن أخرى إلى اللائحة.

كيف يحدث ذلك؟ كيف ينجح؟ ما هي التقنية الخفية؟

وخصوصا: لماذا الآن تحديدًا؟

بوسعي أن أفكّر في ظاهرتَين متصلتَين إحداهما بالأخرى، تتيحان حدوث الانتفاضات: التلفاز والفيسبوك.

يمكّن التلفاز المشاهدين في كامشاتكا أن يرَوا في لحظة الحدث ما يحدث في تمبوكتو. يمكن للناس في ريو دي جانيرو أن يتتبعوا لحظة بلحظة ما يحدث في ميدان تقسيم في إسطنبول.

يومًا ما، كانت أسابيع تمر قبل أن يسمع الناس في ميدان بيكاديلي في لندن بما حدث في ميدان كونكورد في باريس. بعد معركة واترلو، جمعت عائلة روتشيلد ثروة هائلة باستخدام الحمام الزاجل، الذي مكّنها من التغلب على منافسيها. عندما امتدت ثورة 1848 من فرنسا لكل البلدان الأوروبية، كان ذلك مسألة وقت.

ليس ذلك صحيحًا اليوم. رأى شبان البرازيل ما يحدث في حديقة غزي في إسطنبول، وتساءلوا: لماذا ليس هنا؟ رأوا أن شبانا وشابات عاقدي العزم بإمكانهم الصمود أمام خراطيم المياه، الغاز المسيل للدموع، والهراوات، وشعروا أن بوسعهم هم أيضا فعل ذلك.

الأداة الثانية هي الفيسبوك وسائر وسائل التواصل الاجتماعي. قرر خمسة شبان جلسوا في مقهى بالقاهرة وتحدثوا عن الوضع، أن ينشئوا عريضة عبر الحاسوب للإطاحة بالرئيس، وخلال أيام وقعها عشرات الملايين. لم يكن هذا ممكنا يوما ما، منذ فجر التاريخ. لم يكن ممكنا حتى تخيل ذلك.

هذا شكل جديد من الديموقراطية المباشرة. لا يضطر الناس للانتظار إلى الانتخابات القادمة، التي لا يزال موعدها بعيدًا. بإمكانهم التحرك فورًا. وإذا كانت الموجة قوية كفاية، فبإمكانها أن تتحول لتسونامي.

ولكن الثورات لا تصنعها التكنولوجيا. بل البشر. ما الذي يدفع كل هذا العدد من الناس في كل هذا العدد من البلدان المختلفة أن يفعلوا الأمر نفسه في الوقت عينه؟

مثلا، انبعاث الأصولية الدينية. في العقود الأخيرة، حدث ذلك في دول مختلفة، وفي أديان مختلفة. تقيم الأصولية اليهودية مستوطنات في الضفة الغربية، وتهدّد الديموقراطية الإسرائيلية. في كل أنحاء العالم العربي، وفي أجزاء من العالم الإسلامي، تنهض الأصولية الإسلامية، وتسبب الفوضى. في الولايات المتحدة، أنتجت الأصولية الإنجيلية "حفلة الشاي"، وتدفع حاليا الحزب الجمهوري إلى أقصى اليمين، خلافا لمصالحه.

لا أدري ما الوضع في أديان أخرى، لكن ثمة أنباء عن بوذيين يهاجمون المسلمين في عدة بلدان. بوذيون؟ اعتقدتُ دائمًا أن هذا الدين يسعى في أثر السلام بشكل خاص!

كيف يمكن تفسير هذه الظواهر الموازية، والتي تجري في آن واحد؟ يستخدم المحلّلون الاصطلاح الفلسفي الألماني "تسايتغيست" ("روح العصر"). يشرح هذا كل شيء، ولكنه لا يشرح شيئًا. تماما كالاختراع العظيم الآخر: الله.

هل الـ"تسايتغيست" هو الذي يدفع كل هذه الظواهر؟ لا تسألوني.

ثمة تشابه غريب بين الانتفاضات الشعبية في البلدان المختلفة.

يبدأ بها شبان من الطبقة الوسطى. لا الفقراء ولا الأغنياء. الفقراء لا يصنعون ثورات. فهم منشغلون جدا بتأمين لقمة العيش لأبنائهم. لم ينتِج العمال والفلاحون الثورة البلشفية عام 1917، بل مثقفون غير راضين، الكثير منهم يهود.

عندما نرى صورة متظاهرين في الجريدة، لا يمكن أن نعرف لأول وهلة إن كانوا مصريين، إسرائيليين، أتراكًا، إيرانيين، أو أمريكيين. فهم ينتمون للطبقة الاجتماعية عينها. شبان مبعَدون في عصر العولمة العديمة الرحمة، يشتبكون مع سوق عمل لا يعرض عليهم الامتيازات التي توقعوها، طلاب جامعيون لا طلبَ على مهاراتهم بعد، أشخاص يعملون، لكنهم لا يتمكنون من تدبّر أمرهم.

تختلف الأسباب الفورية للاحتجاج وتتعدد. تظاهر الإسرائيليون ضد الأسعار المرتفعة للشقق وكذلك ضد سعر الكوتج. تظاهر الأتراك ضد برنامج تحويل حديقة شعبية إلى مركز تجاري ضخم. ينتفض البرازيليون ضد رفع صغير لأسعار المواصلات العامة. تظاهر المصريون مؤخرا ضد محاولة رهن الدولة لدين منظّم.

لكن إذا نظرنا إلى العمق، فإنّ كل هذه الاحتجاجات تعكس الامتعاض العام من السياسة والسياسيين، من النخب النافذة البعيدة عن الشعب، من مجموعات صغيرة من أصحاب الملايين ذوي الثروات الطائلة، من العولمة غير المفهومة.

نفس التكنولوجيا التي تتيح هذه الثورات تؤدي إلى إضعافها بشكل بارز.

النموذج نراه في أحداث أيار 1968 في فرنسا. فقد بدأت كاحتجاج طلابي، انضم إليه ملايين الناشطين. لم يتوفر تنظيم، أيديولوجية، برنامج، ولا قيادة. تجمّع الناشطون في مسرح، وتجادلوا إلى ما لا نهاية. عبّروا عن عدد لا يُحصى من الأفكار المعقولة والمستحيلة. في النهاية، لم تكن هناك نتائج عملية.

كان هناك روح ما. وصف لي كلود لينتسمان، منتج الفيلم التذكاري "كارثة"، تلك الروح كما يلي: أحرق الطلاب الجامعيون السيارات في الشارع. لذلك، بحثتُ في كل أمسية عن مكان آمن لسيارتي. حتى قلتُ يومًا لنفسي: إلى الجحيم، ما حاجتي إلى سيارة؟ فليحرقوها!

استمرت هذه الروح فترة طويلة. لكن الحياة استمرت، وتحول الحدث الكبير إلى ذكرى.

يمكن أن يحدث ذلك الآن أيضًا. تتشابه المشكلات في كل مكان: لا تنظيم، لا قيادة، لا برنامج، لا أيديولوجية.

المتظاهرون الصغار هم فوضويون بطبعهم. فهم يكرهون القادة، التنظيمات، الأحزاب السياسية، الهرمية، البرامج، والأيديولوجيات.

لكل واحد وواحدة صوت في الفيسبوك. يتيح ذلك له أو لها أن يقول "مع" أو "ضد". يمكن في الفيسبوك الدعوة إلى مظاهرة، لكن لا يمكن تشكيل أيديولوجية مشتركة. لكن كما قال لينين، ليس هناك عمل ثوري دون أيديولوجية ثورية. وقد كان مختصا بفن الثورة.

ثمة خطر أن تتلاشى الثورات الضخمة جميعها في آن واحد - الـ"تسايتغيست"" يعمل مجددا - دون أن يبقي وراءه شيئًا، سوى ذكريات معدودة.

هذا ما حصل في إسرائيل. كان للتظاهرات الضخمة بعض التأثير على الانتخابات بداية العام، لكنّ الأحزاب الجديدة لا تختلف ألبتة عن تلك القديمة. حل سياسيون جدد محل السياسيين القدامى، دون أي تغيير. لا في المجال القومي، ولا في المجال الاجتماعي.

يمكن في الديموقراطية إحداث تغيير فعلي فقط عبر أحزاب سياسية تدخل البرلمان، وتشرّع قوانين جديدة. من أجل ذلك، ثمة حاجة إلى قادة سياسيين - ولا سيما الآن، في حقبة التلفاز. لا يكفي إنتاج البخار - ثمة حاجة إلى ماكنة تستخدم البخار لإنجاز العمل.

مأساة مصر - البلد الذي أحب - توضح ذلك. أطاحت الثورة بالحكم الاستبدادي، لكن في الانتخابات التي جرت بعد ذلك، لم ينجح الثوار في التوحد، في إنتاج قوة سياسية مشتركة، واختيار الزعماء. نجح الإخوان المسلمون في خطف النصر، لأنهم كانوا منظَّمين جيدا، وكانت لديهم قيادة ثابتة.

فشل الإخوان. بعد عقود من السجن، أسكرتهم السلطة. لم يستطيعوا الانتظار. بدل أن يبنوا دولة جديدة على أسس الاعتدال، التسوية واستيعاب الجميع، أرادوا الاستيلاء على كل شيء دفعةً واحدة. كما قال الحكماء: إن قبضتَ على كل شيء، فكأنك لم تقبض على شيء.

على الثوار الديموقراطيين في العالم أن يبرهنوا قدرتهم على قيادة دولة - في مصر أو في أيّ مكان آخر. ما زال بإمكانهم إحداث ربيع عالمي. وإن لم يفعلوا ذلك فلن يخلّفوا وراءهم شيئا، سوى التوق الشعبي إلى عالم أفضل.

هذا يعود إليهم.