|
||
قام نتنياهو، عشية جولة المحادثات الجدية الأولى بين حكومة إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بخطوتين مهمتين: كانت الأولى الإعلان عن مجموعة كاملة من خطط البناء في المستوطنات، وأما الثانية فكانت اتهام الفلسطينيين بالتحريض اللاذع ضد إسرائيل. أولا، سأتطرق إلى انطلاقة البناء في المستوطنات. تحدث السياسيون الإسرائيليون إلى كيري قائلين: "لم يكن هناك خيار أمام نتنياهو المسكين"، وكررت وسائل الإعلام لدينا هذا أيضًا. جون كيري أرغمه على إطلاق سراح 104 أسرى فلسطينيين بمثابة "خطوة لبناء الثقة". كان يتوجب على نتنياهو، بعد أن خطى خطوة عظيمة كهذه أن يتصالح مع زملائه المتطرفين من الليكود والحكومة. يشكل بناء الآلاف من الوحدات السكنية في الأراضي المحتلة (ومن ضمنها القدس الشرقية) أدنى تعويض. أحدثت موافقة الحكومة على إطلاق سراح الأسرى فوضى عارمة. امتلأت الصحف وأخبار التلفزيون بالدماء، وهو الدم الذي لطخ أيدي القتلة الفلسطينيين. (كانت تسميتهم "قتلة" هي بمثابة واجبًا مقدسًا. وليس "محاربين" ولا "نشطاء" وحتى ليس "إرهابيين". فيجدر تسميتهم "قتلة"، لا غير). تمت إدانة كل السجناء المتوقع إطلاق سراحهم قبل اتفاق أوسلو. أي أنه تم سجنهم لمدة 20 سنة على الأقل. والاحتمال بأن يقتلوا إسرائيليين مرة أخرى يكاد يصل إلى الصفر. تظاهر بعض عائلات الضحايا تظاهرات صاخبة، وأيديهم ملونة بالأحمر رافعين رايات ملطخة بالدماء. تنافست وسائل الإعلام فيما بينها على عرض صور لأمهات يبكين (يحب مراسلو التلفزيون الأمهات الباكيات حبًا كبيرًا) ويلوّحن بصور أعزائهن ويصفن أوصافًا تجمد الدم في العروق، بسبب العمليات الإرهابية التي قتل فيها أعزائهن. (كان بعضها مثيرا للاشمئزاز فعلا). لا ننسى أن نتنياهو وافق منذ فترة وجيزة على إطلاق ما يفوق ألف أسير مقابل إطلاق سراح جندي واحد، وهو غلعاد شاليط. أي أن جنديًا واحدًا يساوي ما يربو على عشرة أضعاف من أي احتمال للسلام. كانت طريقة إطلاق سراح أول 26 أسيرا طريقة غريبة. أراد نتنياهو منع نشر صور استقبال عائلاتهم لهم، في الصحف الصباحية، بكل ثمن. ولذلك، تم إطلاق الأسرى بعد منتصف الليل. هذا يذكرنا بآية عن بكاء داود على موت شاؤول في معركة مع الفلسطيين "لاَ تُخْبِرُوا فِي جَتَّ. لاَ تُبَشِّرُوا فِي أَسْوَاقِ أَشْقَلُونَ، لِئَلاَّ تَفْرَحَ بَنَاتُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، لِئَلاَّ تَشْمَتَ بَنَاتُ الْغُلْفِ!" هل يشهد هذا كله على جو من المصالحة عشية محادثات السلام؟ انتظروا هناك المزيد. أرسل نتنياهو في اليوم الذي أعلن فيه عن البناء الجديد في المستوطنات، رسالة احتجاجية إلى جون كيري بشأن التحريض الهمجي المتواصل ضد إسرائيل. كان من شأن هذه الصيغة أن تثير اهتمام لجنة الحكام في جائزة غينيس للوقاحة. الدليل الأساسي على مداهنة أبي مازن، الذي تم ذكره في رسالة نتنياهو، هو خطاب ألقاه موظف فلسطيني بمكانة غير مرموقة، دعا فيه إلى إقامة دولة فلسطينية "من رأس الناقورة وحتى إيلات". هذا يشمل كل أراضي دولة إسرائيل. إضافة إلى ذلك، سُمعت هتافات تنادي بالقضاء على إسرائيل، في مباراة كرة قدم في رام الله. إنه لأمر فظيع، بكل بساطة رهيب! كان يجب على كيري أن يقفز عن مقعده من شدة الغضب! إلا أن معظم زعماء الليكود يصرحون صباحًا ومساءً، أن البلاد كلها هي ملك لشعب إسرائيل، وأعلن نفتالي بينيت، وهو حجر الأساس في الائتلاف، أن الفلسطينيين "يمكنهم نسيان" ما يسمى بالدولة الفلسطينية. ناهيك عن شخص يدعى دانيئل سيمان، مدير عام وزارة الإعلام سابقًا. حين تم حلّ هذه الوزارة، تم ضم سيمان إلى مكتب نتنياهو. ألقيت على عاتقه مسؤولية إدارة الإعلام الإسرائيلي عبر الإنترنت. نشر هذا الأسبوع في صفحته على الفيس بوك رسالة إلى رئيس الوفد الفلسطيني قائلا "ليمارس الجنس مع نفسه". وأوضح ردًا على الكنيسة الاسكتلندية التي اتخذت في الآونة الأخيرة قرارًا يقضي بأنه لا يوجد لليهود حق خاص على أرض إسرائيل، قائلا: "نحن لا نولي أي اهتمام لما تقولونه". يؤلف هذا النابغة في مجال العلاقات العامة حاليا، شبكة سرية من الطلاب الجامعيين، الذين سيحصلون على أجر مقابل قيامهم بالنشاط المرغوب به: ملء شبكات التواصل الاجتماعي بمواد دعائية من قبل مكتب رئيس الحكومة. وأما بالنسبة لمشجعي كرة القدم - أصبح الهتاف "الموت للعرب" في مباريات فريق بيتار، وهي الحركة الشبابية في الليكود، إلى أمر روتيني. إذن لماذا تُقرع الأجراس؟ ليس من أجل السلام على ما يبدو. إحدى المشكلات هي أن لا أحد يعرف ما يريده نتنياهو بالفعل. وربما هو نفسه لا يعرف أيضًا. رئيس الحكومة هو الرجل الأكثر عزلة في الدولة. لا يوجد أصدقاء لديه. إنه لا يثق بشخص أي كان، ولا يثق أحد من حوله به. يحتقره زملاؤه من زعامة الليكود علنًا، وينظرون إليه نظرة شخص يفتقر إلى المبادئ وإلى عمود فقري، نظرة من يخضع لضغط أي كان. يبدو أن هذا كان رأي والده رحمه الله، الذي قال ذات مرة أن بنيامين ملائم لمنصب وزير الخارجية، ولكن ليس منصب رئيس الحكومة. إنه وحيد في الحكومة. كانت هناك مجموعة مقلصة من الوزراء لدى رؤساء الحكومة الأسبقين، حيث كان يمكنهم التشاور معها دائمًا. كان لدى غولدا مئير "مطبخ". لا يوجد لدى نتنياهو أي شيء. فهو لا يستشير أحدًا. يعلن عن قراراته، وهكذا ينتهي الأمر. كان في فترة ولايته السابقة، عدد من الشخصيات ممن كان يثق بهم في مكتبه. وأما الآن لم يبق أي منهم. قامت سارة بطردهم الواحد تلو الآخر. لذلك، وفقا لما ذكّرنا به هذا الأسبوع أحد المحللين، فإن هذا الرجل المنعزل، الذي يفتقر إلى المستشارين، الخبراء أو الأشخاص الذين يثق بهم، كان يتعين عليه اتخاذ القرار بشأن مصير إسرائيل في الأجيال القادمة لوحده. لم يكن هذا الوضع خطرًا إلى هذه الدرجة، لو كان نتنياهو شارل دي غول. ولكن لمزيد أسفنا فهو ليس كذلك. كان دي غول أحد أبرز الشخصيات في القرن العشرين. رجل بارد، غريب، متكبر، وكان كبار شخصيات العالم يكنّون له الكراهية. اتخذ هذا الجنرال القومي، رجل اليمين المتطرف، قرارًا تاريخيًا للتنازل عن الجزائر، الدولة الكبيرة، التي تبلغ مساحتها أربعة أضعاف مساحة فرنسا ذاتها. يتعين علينا أن نتذكر أن الجزائر لم تكن مستعمرة ذات مرة وكذلك لم تكن منطقة محتلة. رسميًا، كانت جزءا من فرنسا ذاتها، لواء من ألويتها. سيطرت فرنسا عليها لفترة تزيد عن قرن. اعتبرها أكثر من مليون مستوطن بمثابة وطنهم. وعلى الرغم من ذلك، اتخذ ديغول قرار التنازل عنها، من خلال المخاطرة بحياته. ومنذ ذلك الوقت، ينتظر رجال اليسار الإسرائيليون، "ديغول إسرائيليًا"، ينفذ العمل بدلا منهم، بمثابة: "الصدّيقون يقومون بعمل الآخرين". و "الآخرون" هم على ما يبدو، ليسوا صدّيقين. هنالك فرق هام جدا من دون شك. كان أصحاب الأموال الفرنسيون يدعمون ديغول. نظر هؤلاء الرأسماليون المتّزنون بلهفة إلى كيف تسيطر ألمانيا على السوق الأوروبية الآخذة بالاتحاد، في الوقت الذي كانت فرنسا تبذر فيه مواردها على الحرب الاستعمارية، التي لا طائل منها. وأرادوا التخلص منها بأقصى سرعة، وكان ديغول هو رجُلهم. نتنياهو قريب من أصحاب الأموال كما كان ديغول. ولكن لا يهتم أصحاب الأموال لدينا بالسلام. قد تتغير نظرتهم فقط إذا ألحق نزع الشرعية الإسرائيلية الضرر بمصالحهم. قد تكون المقاطعة على منتجات المستوطنات، التي فرضها الاتحاد الأوروبي إشارة لما سيحدث لاحقا. على فكرة، محكمة العدل العليا قد أرجأت حتى شهر شباط القادم مناقشة التماس حركة "كتلة السلام" وأنا شخصيًا، ضد القانون الذي يُعاقب الذين ينادون بمقاطعة منتجات المستوطنات. يبدو أن المحكمة تتخوف من أن تلمس حبة البطاطا الساخنة هذه، ولكنها منحتنا إطراءً كبيرًا: ملف "أوري أفنيري ضد الكنيست" (كما يُدعى رسميًا) ستتم مناقشته أمام نصاب كامل من تسعة قضاة من قضاة المحكمة العليا! إذن هل تعتبر "العملية السلمية" عملية جدّية؟ ما الذي يريده نتنياهو؟ هل يرغب نتنياهو بالدخول إلى كتب التاريخ كـ"ديغول الإسرائيلي"، الزعيم الذكي الذي وضع حدًا لنزاع دام 120 سنة وضمن مستقبل إسرائيل؟ أم أن نتنياهو ما هو إلا وصولي ماكر آخر، ينتهج الألاعيب للامتناع عن مواجهة الولايات المتحدة وجها لوجه وليوقف نزع شرعية إسرائيل حتى ولو لفترة ما؟ يبدو الآن أن ديغول يمكنه أن يهدأ في السماء. لا يوجد له منافسون حتى الآن. لا توجد حاليًا أية إشارة ولو طفيفة للطموح إلى السلام. بل على العكس. تستخدم الحكومة "العملية السلمية" كستار من الدخانة، تمر من ورائه الجرافات بكل قوتها. الحكومة تستنكر المقاطعة الأوروبية للمستوطنات لأنها "تلحق الضرر بالعملية السلمية". إنها ترفض المطالبة بتجميد البناء في المستوطنات لأن هذا الأمر "سيضايق العملية السلمية". استثمار مئات ملايين الشواقل في المستوطنات المعزولة، والتي ستكون هناك حاجة إلى تفكيكها في أي اتفاقية سلام محتملة، تساعد السلام على ما يبدو. إذن هل هناك أمل؟ يمكننا فقط أن نعود ونقتبس المثل من لغة الإيديش: "إذا أراد الله، يمكن للمكنسة أن تطلق النار أيضا!" |