|
||
حتى الآن تم تفسير الأفعال الغريبة والتصريحات العجيبة لنتنياهو بكونها مناورات سياسي ماكر، ديماغوغ يعرف روح ناخبيه ويوفّر لهم الأكاذيب كما ينبغي. ليس أكثر. تزداد انتشارا شكوك مثيرة للقلق: أن لدى رئيس حكومتنا مشاكل نفسية خطيرة. بكلمات بسيطة، هل أصبح مجنونًا؟ بدأ كل شيء قبل أسبوعين، عندما ألقى نتنياهو خطابا في المؤتمر الصهيوني العالمي. لقد قال تصريحات صادمة. بحسب كلامه، لم يكن أدولف هتلر يرغب أبدا بإبادة اليهود. لقد أراد طردهم فقط. وحينها التقى بالمفتي المقدسي، الذي أقنعه بأن "يحرق" اليهود. وهكذا ولد الهولوكوست. الاستنتاج؟ لم يكن هتلر سيّئا إلى هذه الدرجة، بعد كل شيء. لم يكن الألمان ملومين حقّا. الفلسطينيون هم من بادروا إلى قتل الملايين الستة. لو كان الحديث عن موضوع آخر، لبدا هذا الخطاب ككذبة أخرى من الأكاذيب والتحريفات التي تميّز نتنياهو. إذن فهتلر لم يكن سيئا جدّا. والفلسطينيون ملومون. وكان المفتي الأب الروحي لأبي مازن. دعاية سياسية بسيطة. ولكن هذه المرة الأمر يتعلق بالهولوكوست، واحدة من أسوأ الفظائع في التاريخ، الحدث الأكثر أهمية في التاريخ اليهودي الحديث، الحدث الذي يؤثّر بشكل مباشر على نصف سكان إسرائيل (وأنا من بينهم) الذي فقدوا أقاربهم في الهولوكوست، أو أنهم هم بأنفسهم من الناجين من الهولوكوست. لم يكن هذا الخطاب مجرّد تلاعب سياسي آخر، أو واحدا من تلك الخطابات التي اعتدنا عليها منذ أن أصبح نتنياهو رئيسا للحكومة. إنه شيء جديد، شيء تهديدي. اندلعت صرخة في جميع أنحاء العالم. هناك الآلاف من الخبراء في الهولوكوست. لقد كُتب ما لا يحصى من الكتب عن هذا الموضوع (ومن بينها كتابي، "الصليب المعقوف"). تم البحث في جميع التفاصيل مرارا وتكرارا. صُدم الناجون من الهولوكوست، لأن نتنياهو برّأ هتلر، والألمان عموما، من المسؤولية الرئيسية عن هذه الجريمة الفظيعة. إذن يبدو أن هتلر لم يكن سيئا جدا، كما ظنّنا. لقد أراد فقط طرد اليهود، وليس قتلهم. العرب الأوغاد هم من أقنعوه بتنفيذ أفظع الفظائع. تصرّفت أنجيلا ميركل بنزاهة وأصدرت فورا استنكارا. فألقت كل اللوم على الشعب الألماني. نُشرت آلاف المقالات الغاضبة حول العالم، ونُشر المئات منها في إسرائيل. لم تكن هذه التصريحات من نتنياهو مجرّد تصريحات غبية، وليست مجرد كلام جاهل. لقد وصلت إلى الجنون. يتم نسب لقب "مفتي" إلى رجل دين مسلم لديه سلطة تفسير قوانين الدين والإفتاء، وهو رجل أكثر أهمية بكثير من مجرّد قاض. "المفتي الأكبر" هو صاحب سلطة عليا في مكان ما. وكما هو معلوم، ليس هناك في الإسلام بابا. المفتي الأكبر في هذه القصة هو الحاج أمين الحسيني، الذي اختير لهذا المنصب في القدس من قبل البريطانيين. فاتضح أن هذا كان خطأ كبيرا. كان الشخص المسؤول عن هذا الخطأ يهودي تحديدًا؛ وهو هربرت صموئيل، المندوب السامي الأول على فلسطين (أرض إسرائيل) بعد الحرب العالمية الأولى. كان الحاج أمين الشاب معروف منذ ذلك الحين كشخص متطرّف، وقد عمل صموئيل بحسب الطريقة الاستعمارية المدروسة: من المفضل تعيين الأعداء للوظائف الكبيرة، من أجل إخراسهم. عائلة الحسيني هي العشيرة الأكثر أهمية في القدس. يبلغ تعدادها نحو خمسة آلاف رجل وامرأة. تحتلّ عشيرة الحسيني حيّا بأكمله. إنها واحدة من العائلات الثلاث أو الأربع الأكثر احتراما في القدس. منذ أجيال طويلة يتولى أحد الحسينيين منصب المفتي، رئيس البلدية أو أحد المناصب الكبيرة الأخرى في المدينة. كان الحاج أمين يثير المتاعب من البداية. لقد لاحظ الخطر الذي يتهدّد السكان العرب من الهجرة الصهيونية. حرض مرة تلو أخرى على القيام بأعمال شغب معادية لبريطانيا ولليهود. وقد وصل ذلك إلى ذروته في الثورة العربية الكبرى عام 1936 - التي يسميها اليهود "الأحداث" - التي هزّت البلاد على مدى ثلاث سنوات، حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. خلال هذه "الأحداث" قُتل الكثير من اليهود والكثير من البريطانيين، ولكن قُتل من العرب أكثر من الجميع. انتهز المفتي (كما يُسمى من قبل الجميع) الفرصة كي يقتل جميع خصومه ومنافسيه. بالنسبة لليهود، أصبح تجسيدا للشر، موضوعا للكراهية الشديدة. في النهاية قرّر البريطانيون طرده. فرّ إلى لبنان، وعندما احتل البريطانيون لبنان في الحرب العالمية الثانية (من أجل طرد جنود حكومة فيشي الفرنسية من هناك) فرّ المفتي إلى العراق، التي كانت في أيدي ثوار مؤيدين للنازية. عندما احتلّ البريطانيون العراق، فرّ المفتي إلى إيطاليا، التي قادت جهود "المحور" الفاشي لكسب قلوب العرب. عمل المفتي، الذي اعتبر البريطانيين العدوّ الرئيسي، بحسب المقولة القديمة "عدوّ عدوّي صديقي". (وقد عمل وفقًا لهذه القاعدة أبراهام شتيرن، "يائير"، الذي سعى هو أيضًا إلى التواصل مع ألمانيا النازية). بدا أن الإيطاليين لم يفرحوا كثيرا باستضافة المفتي في بلدهم، فانتقل إلى ألمانيا. في تلك الفترة سعى جهاز الإس إس النازي إلى تجنيد مسلمي البوسنة للحرب في روسيا، وكان لدى أحدهم تلك الفكرة البرّاقة بأنّ صورة هتلر مع الفتي ستساعد في هذه الجهود. لم يحبّ هتلر هذه الفكرة على الإطلاق. لقد آمن جدّا بنظرية العرق، وبحسبها فإنّ العرب هم من أبناء العرق السامي، وهو عرق أدنى وبغيض، تماما مثل اليهود. ولكن في النهاية تم إقناع هتلر باستضافة هذا اللاجئ العربي إلى ما يُسمى في أيامنا "فرصة لالتقاط صورة". هذا هو سبب الصورة، وهي الصورة الوحيدة للقاء الوحيد بين الرجلين. (بالإضافة إلى ذلك هناك أيضًا صور لزيارة المفتي للمتطوّعين المسلمين في الإس إس بالبوسنة). كان اللقاء قصيرا، وتم تسجيل بروتوكول موجز، ولم يُذكر اليهود أبدا. كان الحدث بأسره عديم الأهمية. حتى جاء نتنياهو. من السخافة أنه وصف المفتي باعتباره أبا للشعب الفلسطيني. في المئات من لقاءاتي كلها مع الفلسطينيين من جميع الأنواع، بدءا بعرفات فما دونه، لم أسمع أبدا كلمة جيدة واحدة عن الحاج أمين، ولا حتى على لسان فيصل الحسيني الرائع، الذي كان أحد أقارب المفتي البعيدين. وصفه جميعهم على حدٍّ سواء كشخص رغم كونه وطنيا فلسطينيا، إلا أنه ضيق الأفق ومفتقد للثقافة الواسعة، ويتحمّل جزءًا من المسؤولية عن النكبة؛ الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني عام 1948. أضعف حمّام الدم الذي قام به المفتي في حق القيادة الفلسطينية بين عاميّ 1936-1939 الفلسطينيين إلى درجة أنّه مع قدوم الامتحان المصيري - خطة التقسيم عام 1947 والحرب عام 1948 - لم يكن للشعب الفلسطيني قيادة جديرة بهذا الاسم. إنّ فكرة أن الفوهرر القادر على كل شيء قد تلقّى ونفّذ نصيحة لاجئ سامي لاتخاذ قرار الهولوكوست هي فكرة مثيرة للسخرية. أكثر من ذلك فهي مجنونة. أيضًا فالتواريخ لا تتلاءم. لقاء الصورة جرى في نهاية عام 1941. وقد بدأت الإبادة فورا مع غزو النازيين لبولندا، عام 1939. وقد وصلت إلى أبعادها الوحشية مع الغزو النازي للاتحاد السوفياتي، في منتصف عام 1941. بعد وقت قصير من ذلك ارتدى الهولوكوست طابعا صناعيا، عندما أعلن هاينريش هيملر، رئيس الإس إس، أنّه "لا يمكن أن نطلب من جندي ألماني جيّد" أن يطلق النار على الرعاع اليهودي. لم يكن للمفتي أي دور في ذلك، ومجرد الفكرة أمر جنوني. في الواقع، حتى عام 1939 عمل هتلر فعلا على طرد اليهود، لأنّ إبادتهم الجسدية لم تكن واردة في أوروبا في وقت السلم. ولكن مع اندلاع الحرب فورا، لاحظ هتلر فرصة إبادة اليهود، وأعلن عن ذلك بالفم الملآن. إذا كان الأمر كذلك، كيف استطاع ابن "المؤرخ الكبير" هذا أن يقول هذه الأشياء المجنونة؟ (تمنح جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية الآن هذا اللقب لبن تسيون نتنياهو، رغم أنني لم أصادف أحدا قرأ بحثه حول محاكم التفتيش الإسبانية). يبدو أن بنيامين نتنياهو قد سمع هذا الهراء من فم دجّال ما تم استئجاره من قبل شيلدون أديلسون، ولكن حتى مع ذلك، فإنّ حقيقة أنه لم ينف هذا الكلام تثبت ليس فقط أنّه جاهل تماما بخصوص الفصل الأهم في تاريخ الشعب اليهودي في العصر الحديث، وإنما أيضًا أن لديه مشكلة نفسية. على ضوء ذلك، فالكثير من القرارات الأخرى تأخذ شكلا مختلفا، مثل قرار هذا الأسبوع بسلب صفة "الإقامة" من آلاف الفلسطينيين في القدس الشرقية، والآن أيضًا قرار إقامة "محكمة الشؤون الأمنية"، وهي مؤسسة موجودة فقط في أسوأ الدكتاتوريات، ومن بينها الدكتاتوريات العربية. الآن أنا خائف. إذا كان فعلا قد يترأسنا شخص ذو مشاكل نفسية؛ فإلى أين سنصل؟ شكى بعض أصدقائي من أن مقالي الأخير يتضمن - إذا استخدمنا عبارة تشرتشل - عدم دقّة لفظية. كتبتُ أن اليهود لم يُذكروا في لقاء هتلر - الحسيني. كانت تلك مبالغة فجّة. يعلم الجميع أن هتلر لم يكن قادرا على قول ثلاث جمل دون ذكر اليهود. (وهذه مبالغة فجّة أخرى). تتضمن النسخة الإنجليزية من البروتوكول الأصلي نحو 2250 كلمة. تم ذكر اليهود في البروتوكول 12 مرة: ثلاث مرات من قبل المفتي وتسع مرات من قبل هتلر. استخدم هتلر جميع عباراته الروتينية، واستخدم المفتي جرعة فائضة من الإطراء. لم يقل أيّ من الرجلين شيئا جديدا. رفض هتلر بأدب جميع طلبات المفتي. بحسب هتلر، فقد سيطر اليهود على بريطانيا والاتحاد السوفياتي. (لم تكن الولايات المتحدة قد دخلت في الحرب بعد). لو كانت إيطاليا واليابان في الجانب الآخر، لكان هتلر سيضمّهما إلى قائمة خدّام اليهود. في تلك الفترة، تشرين الثاني عام 1941، تم فعليا تنفيذ الإبادة بزخم كبير من قبل "الأينزاتسغروبن" - وحدات القتل النازية. من الواضح من خلال النص أنّه لم تكن لدى المفتي أية فكرة عن الموضوع. لم يكشف له هتلر ذلك. كان ذلك السر رقم واحد من بين أسرار الدولة. هذا البروتوكول معروف منذ زمن طويل. لو كان نتنياهو صادقا في ادعاءاته التي لا أساس لها، لكانت آلتنا الدعائية الممتازة ستذكّرنا وتذكّر العالم بهذا الأمر كل يوم. وبخصوص علاقة النازيين بالمفتي: بعد اللقاء مع هتلر مكث الحاج أمين على الأقل أربع سنوات إضافية في ألمانيا. لا يُعرف أي شيء تقريبًا عن أعماله هناك. لم يدعوه هتلر للقاء آخر. وهذا يدل على أهميته. بالمناسبة، اضطرّ نتنياهو هذا الأسبوع إلى إنكار نفسه. دون اعتذار، بطبيعة الحال. |