|
||
ولكن في الواقع كان كلّ شيء سيّئا في العالم الأسوأ. ومع ذلك، وراء البحر الأزرق، في باريس البعيدة، عُقد الاجتماع الأكبر منذ أي يوم مضى لزعماء العالم، والذين تشاوروا حول كيفية إنقاذ الكرة الأرضية من كارثة مناخية. بنيامين نتنياهو الذي لدينا كان هناك، على رأس وفد ضخم، رغم أنّ معظم الإسرائيليين، بما في ذلك نتنياهو نفسه، يشعرون بالازدراء العميق تجاه هذه المشكلة. إنهم يعتقدون أنّها قضية هامشية، تسلية لدول ليست لديها مشاكل أخرى. أما لدينا، فالحمد لله، هناك وفرة من المشاكل. سافر نتنياهو في رحلة جوية إلى هناك ليُصافح أمام الكاميرات. لقد صافح جميع الزعماء المهمين في العالم، بما في ذلك زعماء عرب. يثبتُ هذا عدم صحة كلام النادبين على عزلة إسرائيل المتزايدة، أليس كذلك؟ ولكن كل شيء كان مزوّرا. إسرائيل معرّضة لخطر شديد. وليس خطرا واحدا، وإنما ثلاثة. نظرتُ إلى البحر وفكّرتُ في هذه المخاطر الشديدة. في المستشفى أيضا لم أستطع نسيانها. بداية، هناك خطر أنّ نتحول إلى دولة أبارتهايد (منذ الآن إسرائيل هي دولة أبارتهايد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة). عاجلا أو آجلا، ستختفي تماما الحدود المتخيّلة بين إسرائيل و "الأراضي المحتلة". إنها لا تزال قائمة من الناحية القانونية. ولكن إلى متى؟ يعيش اليوم بين البحر المتوسّط ونهر الأردن نحو 6.5 مليون يهودي إسرائيلي ونحو 6.5 مليون عربي فلسطيني. ستكون دولة أبارتهايد بالمفهوم الأسوأ للكلمة. ربما في نهاية المطاف ستضطر إسرائيل إلى منح السكان العرب حقوقا متساوية، بما في ذلك حقّ الانتخاب. يبدو مثل هذا الوضع اليوم كخيار للمستقبل الأبعد. ستكون دولة ثنائية القومية كهذه دولة حرب أهلية مستمرة. ليس هناك أي شيء مشترك بين هذين الشعبين؛ من الناحية الاجتماعية، الثقافية، الدينية، الاقتصادية. الشيء الوحيد الذي يوحّدهما هو الكراهية المتبادلة. الخطر الثاني يرتدي صورة داعش. قد يأتي يوم تتوحّد فيه جميع البلدان المجاورة تحت راية الله السوداء، ويتوجّه الجميع ضدّنا. حدث مثل هذا الأمر قبل 900 عام، عندما وحّد صلاح الدين الكبير العرب ضدّ الصليبيين وألقى بهم في البحر. (لم يكن صلاح الدين نفسه عربيّا، وإنما كرديّا من شمال العراق). في مرحلة انتظار مثل هذا الاحتمال ستبقى دولة إسرائيل مسلّحة من أخمص القدم حتى الرأس، مع وفرة من القنابل الذرية؛ وستكون دولة عسكرية، مثل أسبرطة، دولة دينية متعصّبة، صورة يهودية طبق الأصل من داعش المسلمة. ربما يكون الخطر الثالث هو الأكثر خطورة: أن يهاجر عدد متزايد من الشبان الموهوبين إلى الولايات المتحدة وألمانيا، ويبقون خلفهم السكان الأقل موهبة، الأكثر بدائية، الأقل إبداعا. حدث ذلك فعلا. لجميع أصدقائي تقريبا هناك أبناء وبنات يعيشون في الخارج. وبالمناسبة، يبدو أن حبّ الوطن ينمو مع البُعد. يعمل نتنياهو جاهدا كي يشرّع قانونا يمنح حقّ الانتخاب للإسرائيليين الذين يعيشون بشكل دائم في الخارج. يعتقد أنّ معظمهم سيصوّتون لليمين المتطرّف. وماذا عن مستقبل الكرة الأرضية؟ فليذهب إلى الجحيم. قليلون هم الناس الذين يتحدثون عن هذه المخاطر الثلاثة. يتفق معظم الإسرائيليين فيما بينهم، اتفاقا صامتا، بأنّه "لا حلّ". إذن لماذا علينا أن نكسّر رؤوسنا؟ هناك خطر آخر، يتحدث عنه تحديدا الجميع إلى ما لا نهاية: تفكك المجتمع الإسرائيلي. عندما كنت شابا، قبل أن تُولد دولة إسرائيل، كنّا عازمين على إنشاء مجتمع جديد، بل أمّة جديدة، أمّة عبرية. ابتعدنا عن مصطلح "يهودي"، لأنّنا كنا نختلف عن اليهود في العالم. بخلافهم، كنا مرتبطين بالأرض، وكنا محليّين، وقوميين. أشَدْنا بنموذج "الصبّار" [أي المولود في البلاد]. في نظرنا كان الصبّار في البلاد نبتة محلية، من أرض إسرائيل (رغم أنّ نبتة الصبر تحديدا جاءت من المكسيك). اعتُبر الشخص السبّار [أي المولود في البلاد] نموذجا عمليا، موضوعيا، بعيدا عن السفسطة اليهودية. دون أن نكون على وعي بذلك، افترضنا أن هذا النموذج الجديد هو شكنازيّ، ذو عينين زرقاوين، من أصول أوروبية. تحت هذا الشعار أنشأنا ثقافة عبرية جديدة. ثقافة جديدة لم تكن مؤلّفة فقط من الأدب، الشعر، الموسيقى وما شابه، وإنما اشتملت أيضا على طبيعة الجيش والمجتمع، على كل شيء. كان في ذلك الكثير من الغطرسة، ولكنّا كنا فخورين بخلق شيء جديد تماما، شيء من لا شيء. ساعدَنا ذلك في الوقوف على أرجلنا، وأن ننتصر (بصعوبة) في حرب 1948 وأن نقيم دولة. في اليوم التالي من الحرب جلبنا إلى البلاد موجة هائلة من المهاجرين الجدد، وهكذا بدأت المشاكل. عندما "انطلقت الدولة" (كما كنّا نسمّي ذلك مازحين) كنّا في البلاد نحو 650 ألف رجل وامرأة. خلال وقت قصير جلبنا إلى البلاد أكثر من مليون قادم جديد - ليس فقط بقايا اللاجئين من الكارثة في أوروبا، وإنما أيضا جميع يهود البلدان الإسلامية تقريبًا. ساعدنا اليهود الذين كانوا متردّدين في الهجرة إلى البلاد في أن يتخذوا قرارهم. زرع مبعوثونا السريّيين القنابل في الكنُس في العراق كي يقنعوا اليهود بمغادرة البلاد. توقّعنا بطريقة ما أن يكون المهاجرون الجدد مثلنا، وإن لم يكن فورًا - ففي الجيل التالي. ولكن ذلك لم يحدث. وكان "الشرقيون" ذوي ثقافة وتقاليد خاصة بهم. لم تكن لديهم أيّة رغبة في أن يصبحوا من "السبار". كان يأمل أشخاص مثل ديفيد بن غوريون بأن تحلّ المشكلة نفسها خلال سنوات معدودة. ولكن ذلك لم يحدث. على العكس، مع الوقت ازدادت المرارة والرفض المتبادل. واليوم، يعرف الجيل الثالث والرابع ذلك أكثر من أيّ وقت مضى. وهناك أيضا المعسكر "الديني-القومي"، وهو معسكر القلنسوات المحبوكة. عندما انطلقت الدولة، اعتقد الجميع أنّ الدين سيموت موتا طبيعيا. لقد حلّت القومية العبرية العلمانية مكانه. كنّا واثقين أن الدين اليهودي ينتمي إلى الشتات وسيختفي مع كبار السنّ، الذين ما زالوا متمسّكين به. عاملناهم بازدراء لطيف. في الواقع، حدث عكس ذلك. بعد حرب الأيام الستة، التي أوصلت جنود الجيش الإسرائيلي إلى الأماكن التوراتية، عاد الدين إلى الحياة، وبدرجة كبيرة. خلقت الصحوة الدينية حركة الاستيطان، وسيطرت على المعسكر اليميني وتشكّلت الآن قوة مهيمنة في الحياة وفي السياسة. سيطر الدين تدريجيّا على الجيش أيضًا. "المحبوكون" [نسبة إلى قبّعاتهم المحبوكة] يختلفون عن الحاريديين، والذين هم مجتمع منفصل يعيشون في أحياء مغلقة ويعتمرون قبّعات سوداء. يرفض الحاريديون الصهيونية جملةً وتفصيلًا، ولكنهم يستخدمون قوتهم الانتخابية لإجبار الدولة على دعم ما لا يُحصى من الذرية. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي جاءت إلى البلاد موجة هائلة من المهاجرين الروس. كل إسرائيلي خامس تقريبا هو "روسي" (وهو مصطلح يشمل جميع البلدات التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي). وقد سئم معظمهم من كل شيء تفوح منه رائحة اشتراكية ويسارية ويميلون إلى اليمين المتطرف، القومي بل والعنصري. ويُضاف إلى هؤلاء جميعًا أيضا المواطنون العرب، الذين يشكّلون أكثر من 20% من السكان. إنهم منتمون وغير منتمين. في الواقع هم مندمجون في الحياة بالدولة أكثر مما يتصوّرون. (يكفي الدخول إلى المستشفى ومشاهدة عدد مديري الأقسام، الأطباء، الممرّضين والممرّضات العرب). ولكن يتعامل الكثير من اليهود معهم كأعداء. هتاف "الموت للعرب"! هو شعار ملاعب كرة القدم. عمومًا: إنّ رؤية أمّة عبرية جديدة ومتجانسة قد ماتت منذ زمن. إسرائيل اليوم هي دولة منقسمة جدّا، شيء كاتحاد من "الأوساط" التي لا تحبّ بعضها البعض: الشكناز، الشرقيون، المتدينون-القوميون، الحاريديون، "الروس" والعرب. وهناك أيضا الكثير من الأوساط الفرعية. الشيء الوحيد الذي يربط بين الجميع هو الجيش، الذين يخدم جميعهم فيه (باستثناء الحاريديين والعرب). وبطبيعة الحال العامل الذي يوحّد أكثر من كل شيء: الحرب. |