|
||
نبدأ بحزب الله. بشكل مفاجئ، ساهمت إسرائيل مساهمة كبيرة في تأسيس هذا التنظيم. لبنان هي دولة اصطناعية. كانت طوال قرون جزءًا من سوريا. بسبب الجبال العالية، كان ذلك مكانا مثاليا للطوائف الدينية الصغيرة والملاحَقة للاستيطان فيها، لأنّها استطاعت فيها حماية نفسها. إحدى هذه الطوائف هي الطائفة المسيحية المارونية، المسماة على اسم راهب يدعى مارون. بعد الحرب العالمية الأولى، عندما قسّمت القوى العظمى المنتصرة الإمبراطورية العثمانية، أصرّت فرنسا على إقامة دولة لبنانية-مسيحية مستقلة تحت رعايتها. مثل هذه الدولة كانت صغيرة جدا، ولم يكن فيها ميناء حقيقي. ومن ثم - وبخلاف مصلحتها - ضُمّت إليها مساحات أخرى وقامت دولة أكبر، والتي تحتوي على طوائف دينية أخرى تكره بعضها البعض. في لبنان هناك خمس طوائف رئيسية: (1) الموارنة في حصنهم الجبلي، (2) الطوائف المسيحية المختلفة الأخرى، (3) المسلمون السنة، والذين زرعهم الحكم العثماني (السني) في المدن الساحلية المهمة لأسباب أمنية، (4) الدروز، الذين انفصلوا عن الإسلام قبل مئات السنين، (5) المسلمون الشيعة. يعيش الشيعة في جنوب لبنان. من بين جميع الطوائف، كانوا هم الطائفة الأفقر والأضعف. احتقرهم أبناء الطوائف الأخرى واستغلّوهم. في هذا الاتحاد الطائفي، المسمى لبنان، يمنح الدستور لكل طائفة منصبا كبيرا واحدا. يكون رئيس الدولة مارونيا دائما، رئيس الحكومة سنيا، وقائد الجيش درزيا. لم يبقَ للشيعة المساكين شيء سوى منصب رئيس البرلمان، وهو لقب يفتقد إلى القوة. على مدى جيل، كانت الحدود الإسرائيلية - اللبنانية، والتي هي في الواقع حدود إسرائيلية - شيعية، الحدود الأكثر هدوءًا لإسرائيل. في كلا الجانبين عمل المزارعون على مسافة عشرات الأمتار عن بعضهم البعض، من دون وجود سياج ومن دون وقوع حوادث. كان من المعتاد حينها أن يُقال إنّ لبنان ستكون الدولة العربية الثانية التي ستصنع السلام مع إسرائيل، لأنّها لا تجرؤ على أن تكون الأولى. في إحدى المرات، في الأربعينات الأولى، اجتزتُ عن طريق الخطأ الحدود التي لم يكن مشارًا إليها. فأوضح لي شرطي لبناني مهذّب طريق العودة. في "أيلول الأسود" عام 1970، والذي طرد فيه الملك حسين التنظيمات الفلسطينية من الأردن، أصبح جنوب لبنان قاعدة جديدة للتنظيمات الفلسطينية. وعندها أصبحت الحدود الأكثر هدوءًا أكثرها اضطرابا. لم يحبّ الشيعة الفلسطينيين والمتاعب التي جلبوها معهم. عندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان عام 1982 من أجل طرد الفلسطينيين وإقامة ديكتاتورية مارونية في لبنان، فرح الشيعة. لم يتم إخراج ومعالجة الصور التي يظهر فيها السكان المحليّون وهم يستقبلون الجنود الإسرائيليين بالخبز والملح. في اليوم الرابع من تلك الحرب اجتزتُ الحدود لأشاهد بنفسي ماذا يحدث هناك. فتح لي البوابة جندي يمني وحيد، والذي شاهدني يوما ما في التلفزيون ولذلك ظنّ أني ذي منصب كبير في الحكومة. جنبا إلى جنب مع عضوتين من أعضاء "هعولام هازيه"، عنات سرغوستي وسريت يشاي، تنقلنا بين القرى الشيعية بسيارتي الخاصة ذات لوحة الأرقام الصفراء الإسرائيلية. في كل مكان رحّبوا بنا بهتافات الفرح وطلبوا منا أن نحتسي القهوة في البيوت. كان سبب هذه الصداقة العفوية بسيطا: اعتقد الشيعة أنّ الجيش سيحرّرهم من الفلسطينيين المتغطرسين، وحينها سيقول إلى اللقاء وسيرحل. ولكن الإسرائيليين ليسوا ممتازين بالرحيل. بعد عدة أشهر أدرك الشيعة أنّه الاحتلال الفلسطيني تبدل بالاحتلال الإسرائيلي. فشنوا حرب عصابات كلاسيكية. تحوّل الشيعة المظلومين والمطيعين بين ليلة وضحاها إلى مقاتلين جريئين. تبدّل الحزب الشيعي المعتدل، الذي كان يمثّل الشيعة حتى ذلك الحين، بحزب أكثر تطرّفا - حزب الله. هوجم جنود الجيش الإسرائيلي من الكمائن من قبل عدوّ لا يُرى. بدأ الجيش الإسرائيلي بالتحرّك بقوافل. في إحدى المرات انضممتُ إلى قافلة من تلك القوافل ورأيت الجنود الذين ارتعدوا حقا من الخوف، حرفيّا. بعد 18 عاما على ذلك، غادر الجيش الإسرائيلي المنطقة بشكل دائم، كان ذلك انسحابا قريبا من الهروب. ترك الجيش خلفه دويلة شيعية تحت سيطرة حزب الله. عندما قتلت إسرائيل زعيمه، حلّ مكانه نصر الله، وهو زعيم أكثر موهبة بكثير. يشكّل الشيعة اليوم القوة الأقوى في لبنان. إنهم يقومون بدور مهم في "الهلال الشيعي"، المؤلّف من إيران. العراق، سوريا الأسد، وحزب الله. قرّر بنيامين نتنياهو، بذكائه الكبير، أنّ هذا الهلال يشكّل اليوم تهديدا قاتلا على إسرائيل. عقد تحالفا سريا مع السعودية، التي أقامت كتلة سنية مضادة، والتي تتضمن مصر ودول الخليج العربي. تحظى هذه الكتلة باتصالات معينة مع داعش أيضًا. هل حزب الله هو عدوّنا الأكثر خطورة؟ سأسمح لنفسي أن أعترض على ذلك. أعتقد أنّ العدو الأكثر خطورة علينا هو داعش - ليس فقط لقوتها العسكرية، وإنما لأنّها تمثّل فكرة. إنها تثير حماسة ملايين المسلمين في جميع أنحاء العالم. يمكن للأفكار أن تكون أكثر خطورة بكثير من المدافع - ولكن هذا الاعتراف يتعارض مع الطابع الإسرائيلي. هناك لدى حزب الله اليوم قوات نظامية، والتي تقاتل في سوريا ضدّ داعش والآخرين. وأيا كان الأمر، فحزب الله ليس تنظيما إرهابيا. ما هو "الإرهاب"؟ في أيامنا هو كلمة إدانة عديمة المحتوي الحقيقي. معنى كلمة "إرهاب" هو تكتيك عنيف لفرض الرعب في قلوب المواطنين، من أجل تحقيق أهداف سياسية. بهذا المعنى، كل حرب هي في الواقع إرهاب. ولكن بالمفهوم الأكثر دقة تُستخدم هذه الكلمة كتعريف لأعمال العنف الفردية. في هذه الأيام، تسمي كل دولة وكل حزب أعداءه "إرهابيين". إنها شتيمة شعبية، ليس لها معنى حقيقي. على كل حال، فكل جيش هو أداة للإرهاب. في أيام الحرب، يحاول الجيش فرض الرعب على العدو كي يقبل مطالبه. كان إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما عملية إرهابية، وكذلك حريق مدينة درسدن. في أيام ماضية استُخدم مصطلح "الإرهاب" لتعريف الأفعال مثل قتل الوزراء الروس (وهي أعمال أدانها لينين) أو قتل ولي العهد النمساوي، والذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى. (لم تُعتبر الحرب نفسها إرهابا، لأنّه قُتل فيها ملايين وليس أفرادا). لا يحقق الإرهابيون أهدافهم بسبب قوة أفعالهم، وإنما بسبب تأثيرهم النفسي. قد يُنسى قتل مائة شخص في اليوم التالي، أما قتل إنسان واحد فقط يتم تذكره حتى بعد مرور مئات السنين. تم تخليد شمشون الجبار، الإرهابي اللدود، في الكتاب المقدس كأحد أبطال إسرائيل. (لأنّ التأثير النفسي مهم جدا، فإنّ معظم الردود على الأعمال الإرهابية تخدم تحديدا الإرهابيين). يضع الإرهابيون الحديثون - الإرهابيون الحقيقيون - القنابل في الأسواق، يطلقون النار على المدنيين العشوائيين ويدهسون الناس. حزب الله لا يفعل شيئا من ذلك. يمكن أن نكره حزب الله وحسن نصر الله. ولكن أن نسميهما إرهابيين فهذا مجرّد غباء. خطرت لي هذه الأفكار بسبب سلسلة من الأحداث التي جعلتني مؤخرا أشعر متأثر كثيرا في موقفنا. أعلنت جامعة الدول العربية، الخاضعة للسعودية، عن حزب الله تنظيما "إرهابيا". ليست هناك دلالة عملية على ذلك تقريبا. إنها مجرد ضربة صغيرة في الصراع بين السعودية وإيران. أو بين "الهلال الشيعي" و "الكتلة السنية". أدان حزبان عربيان صغيران في إسرائيل، حزبان من بين أربعة أحزاب تتألف منها "القائمة المشتركة"، إعلان الجامعة العربية. الحزبان هما حزب التجمع الوطني الديمقراطي - القومي والحزب الشيوعي، المؤيّد للأسد. فثار غضب أعضاء الكنيست. كيف يجرؤون، هؤلاء العرب! يدافعون عن العدوّ؟ ينفون أيضا أن هؤلاء الإرهابيين اللدودين هم إرهابيون لدودون؟ يطالب أعضاء الكنيست اليهود، بشدّة، بإخراج هذه الأحزاب العربية خارج القانون، وطرد أعضائها من الكنيست، وماذا لم يطالبوا به بعد. ولأنّه ليست هناك في إسرائيل في الواقع عقوبة إعدام قانونية، فلا يمكن إعدامهم. إنه أمر مؤسف. هل كان أعضاء الكنيست العرب هؤلاء محقّين عندما عبّروا عن رأيهم؟ بالتأكيد. هل كان هذا التعبير عن الرأي منطقيا؟ طبعا. ولكن في السياسة يمكن للمنطق أن يكون سمّا. في نظر اليهودي البسيط، حزب الله هو عدوّ قاتل. نصر الله، ذو الأسلوب المتعالي والساخر، مكروه في نظر الجميع. إنّ تعبير أعضاء الكنيست العرب عن رأيهم، والذي ليست له في الواقع علاقة بإسرائيل أبدا، قد أثار غضب زملاءهم اليهود وكافة الشعب اليهودي. المواطنون العرب في إسرائيل هم، بطبيعة الحال، جزء من العالم العربي. يتمتعون بحق التعبير عن رأيهم حول ما يحدث في العالم العربي. هذا من حقهم، ولكنهم ليسوا مجبرين. يتمزّق جميع أعضاء الكنيست العرب بين دورين، واللذين يتناقضان مع بعضهما البعض ظاهريا: دور خدمة مصالح الوسط العربي في إسرائيل، والذي انتخبهم، والدور الثاني هو اتخاذ موقف بخصوص القضايا المتعلقة بالشعب الفلسطيني والعالم العربي بأسره. عندما أدانوا إعلان الجامعة العربية فقد خدموا الدور الثاني، وفقا لرؤيتهم. ولكن في الوقت ذاته فقد عمّقوا الهوّة بين المواطنين اليهود والعرب. عندما نعمّق هذه الهوّة من دون حاجة مستعجلة، نضر بالدور الأول. وبذلك فهم أيضا يضرّون باحتمالات السلام على المدى البعيد. أنا بالتأكيد أتفهّمهم، ولكني لا أعتقد أنّ ذلك كان فعلا حكيما. لم يكن حكيما حقا. لم يكن على الإطلاق. |