|
||
من جهة، يثير الحظّ فخرا، ومن جهة أخرى، تدمرا. مثلا، بنيامين نتنياهو، سياسي ذو حظّ هائل، حتى الآن على الأقل. أُجبِر سابقوه على مواجهة جبهة موحّدة من الدول العربيّة، والتي كان واضحا أنها ستعمل على القضاء على إسرائيل أو على الأقل مساعدة الشعب الفلسطيني في تحقيق الحرية والاستقلال. بعد يوم من انتهاء الانتداب البريطانيّ وإعلان استقلال دولة إسرائيل شنت جيوش كل الدول العربية المجاورة هجوما ضدنا. عام 1967، حاولت ثلاث دول عربية تكرار الخطوة مجدّدا، وكانت النتائج كارثية (بالنسبة لها). عام 1973 شنت دولتان من بينهم حربا مجدّدا من الجنوب والشمال، وتم صدّهما فقط بعد قتال عنيف. كان ذلك مفهوما ضمنا دائما: إذا سنحت الفرصة، فستشن جميع الجيوش العربية هجوما على إسرائيل مجددا من أجل إجبارها على الانسحاب من الأراضي المحتلة ومساعدة الإخوة الفلسطينيين على إقامة دولتهم المستقلة أخيرا. وما هو الحال الآن؟ ليس هناك أي تهديد عسكري على إسرائيل الآن. أصبحت جميع الدول العربية المجاورة مشغولة جدا في القتال فيما بينها. كانت سوريا، وهي موطن القوميّة العربية، في الماضي، العدوّ الأكثر عزيمة لإسرائيل. كان يُعتبر جيشها الجيش العربي الأكثر صرامة. ماذا تبقّى منه؟. قبل عدة أيام طلبت مني صديقة أن أوضح لها عن القوات المتنازعة في سوريا. ذكرتُ جيش الرئيس بشار الأسد، الميليشيات الإسلامية المختلفة التي تقاتل الأسد وتقاتل بعضها أيضًا، داعش التي تقاتل كل هذه القوى، الأكراد، وفي حين أن إيران وحزب الله يدعمان الأسد ضدّ الولايات المتحدة، يدعمان في الوقت ذاته أيضًا الولايات المتحدة ضدّ داعش، بينما تدعم تركيا، الداعمة لداعش، في الوقت ذاته الولايات المتحدة، المتعاونة مع روسيا ضدّ داعش، بينما يقاتل الأتراك الأكراد، الذين تدعمهم الولايات المتحدة... بعد خمس دقائق سئمت صديقتي، وقالت "هذا معقّد جدا بالنسبة لي، شكرا". يحاول الجنرالات والسياسيون في دولة إسرائيل إخفاء سعادتهم من هذا الوضع عبثا. إنهم يتظاهرون وكأنّهم يشعرون بالفزع لرؤية هذه الفظائع التي تحدث في مدينة حلب، ولكن الثقافة العربية ومفترق التجارة الإقليمية، التي ازدهرت فيها يوما ما جالية يهودية متنوعة ومحترمة. رغم أن نتنياهو لم يقم بأية خطوة من أجل إنشاء هذا الوضع، إلا أنه المستفيد الرئيسي منه. والآن لا تُشكل سوريا تهديدا أيا كان ضدّ إسرائيل، ولا يُتوقع في المستقبَل المنظور أيضا حدوث مثل هذا التهديد. يمكن أن تضرب إسرائيل جذورها بهدوء في الجولان السوري، الذي أصبح "جزءًا لا يتجزّأ" من دولة إسرائيل. تُقدّم السعودية نفسها باعتبارها مركز العالم الإسلامي، لأنه تقع فيها المدينتان الأكثر قداسة في الإسلام وهما مكة والمدينة. يتدفّق التمويل السعودي إلى خلايا الإسلام الأكثر تطرّفا في كل أنحاء العالم. يُعتبر أئمتها من أكثر علماء الدين تعصّبا والذين يدعون إلى القضاء على محضن الكفار البغيض، إسرائيل. والآن، أصبحت السعودية مشغولة تمامًا في الصراع ضدّ إيران، المنافس الرئيسي لها في العالم الإسلامي. الحرب الفظيعة في اليمن هي جزء من هذا الصراع. تحتاج السعودية إلى كل مساعدة يمكنها تحقيقها. ومن أين ستأتي المساعدة؟ لا يُصَدَّق - من إسرائيل الملعونة والمشتومة. يداعب الأمراء السعوديون - هناك الآلاف منهم - الآن بشكل علنيّ تقريبًا "الدولة اليهودية". وفي الطريق التي تسير فيها السعودية، تسير أيضًا سائر دول الخليج: الكويت، البحرين، قطر، دبي، وغيرها. جميع هذه الدول غني. أصبحت تتعاون السعودية الآن مع إسرائيل، بطبيعة الحال سرّا. قرّر أئمة سعوديون أنّ اليهود باتوا يشكّلون خطرا أقل على الإسلام من الشيعة الكفار، حكام إيران. بحيث إنّه من المسموح به تماما التعاون مع إسرائيل ضدّ إيران. وما تراه السعودية التي تخاف الله مناسبا تراه مصر أكثر مناسبا بكثير، وهي الدولة العربية الأكبر. في الماضي، خضنا حروبا ضدّ مصر. كنت جنديّا في الحرب الأولى، وأذكر أنّني ركضت مرة في حقل كبير مغطى كله بجثث الجنود المصريين. قبل نحو 30 عاما وقّعت إسرائيل على معاهدة سلام مع مصر، ولكن العلاقات بقيت باردة، بل مجمّدة تقريبا. شعر الشعب في مصر بالتزام عميق تجاه الإخوة الفقراء في فلسطين. فهو لا يحبّ تعامل إسرائيل معه. والآن انكسر الجليد بين كلا الحكومتين. ومع ذلك، فإنّ لاعب الجودو المصري في ريو رفض مصافحة الفائز الإسرائيلي، وصرح وزير الخارجية المصري بعض الكلمات المشكوك فيها بعد زيارته إلى إسرائيل. ولكن من وراء الكواليس، هناك علاقات دافئة، وهي تزداد دفئًا مع مرور الوقت. تقف في وسطها الجهود المشتركة للتضييق على حكومة حماس في قطاع غزة، وهي حكومة تحظى بدعم إيران وجميع الفلسطينيين الآخرين. لم يبذل نتنياهو جهدا للعمل على إنشاء هذا الوضع. ولكن ذلك حدث في فترة ولايته. حدث صدفة، إنه سياسي محظوظ فعلا. في الجبهة الاقتصادية لعب الحظّ دوره لصالح نتنياهو. إنّ بيع السلع والخدمات الإسرائيلية يتوسّع في آسيا، ويعوّض على الخسائر الخفيفة في السوق الأوروبي والأمريكي. تمت ملاحظة نشاط حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) بصعوبة. (كانت ستنجح الحملة الواسعة التي شنتها الحركة بشكل أكبر بكثير لو تركّزت كلها على مقاطعة منتَجات المستوطنات. لقد قامت "كتلة السلام"، التي أنا عضو فيها، بمثل هذه المقاطعة قبل نحو 20 عاما. كان هدفنا المعلَن هو الفصل بين المستوطنين وسكان إسرائيل نفسها. يؤدي نشاط الحركة إلى نتيجة عكسية: إنه يدفع الجمهور إلى أحضان نتنياهو). يؤثّر النجاح الاقتصادي الإسرائيلي كثيرا في الحالة المزاجية الوطنية. يعيش معظم الأشخاص الذين ينتقدون نتنياهو بشدّة حياة مريحة. لا يصنع الأشخاص الذين يعيشون حياة كهذه الثورات. سيعبّرون، على الأكثر، عن عدم رضاهم في حفلات عشية يوم السبت. يكتب بعضهم مقالات في "هآرتس". وبالمناسبة، شكرا لله على وجود صحيفة "هآرتس". ولكنّ مثلا هؤلاء الأشخاص لا يصعدون على المنصات. ليست هناك الآن معارضة نشطة لنتنياهو. أعلن قادة حزب العمل، ورثة بن غوريون ورابين، إفلاسهم ولا يظهر أي بديل في الأفق. حزب ميرتس هو جزيرة جميلة، منعزلة. بقيت القائمة العربية في الخارج، وهي سعيدة. هناك العشرات من الجمعيات الناشطة في مجال السلام وحقوق الإنسان، والتي تؤدي عملا ممتازا. يكافح أعضاؤها الاحتلال بشجاعة، يساعدون الفلسطينيين، يدافعون عن الديمقراطية بطرق كثيرة، وأحيانًا من خلال المخاطرة. في كل أسبوع تقريبا تظهر جمعية جديدة، ترفع رايتها وتدعو إلى الانضمام إليها. يمكن لإسرائيل أن تفخر حقّا بمثل هؤلاء الشباب المثاليين، ولكن لديهم طموحات سياسية ولذلك لا يؤثرون في قيادة البلاد التي تتّخذ القرارات. يواجه الكنيست الآن حالة مهينة جدا، والتي أخجل أنا شخصيا منها. بصفتي عضو كنيست سابق تتم دعوتي لجميع الجلسات الاحتفالية الكثيرة، ولكن لا أشارك فيها. يُستحسن عدم النظر من قريب إلى عشرات السياسيين اليمينيين الطفوليين، الذين يضيّعون وقتهم وأموال دافعي الضرائب في تحقيق مشاريع قوانين سخيفة، مثل مشروع "الدفاع عن العلم". إنه يحظر، من بين أمور أخرى، على رئيس الدولة أن يشارك في كل حدث عام لا يكون فيه العلم الإسرائيلي مرفوعا وبارزا. علينا أن نتساءل كيف يمكن القيام بعمل جادّ أيّا كان في مثل هذا الكنيست. وهكذا أدى ذلك بالكثير من الإسرائيليين إلى اليأس من احتمال تغيير إسرائيل "من الداخل" وبناء أحلامهم على ممارسة "الضغوط الخارجية". إنّهم يأملون أن "يفرض" "العالم" - الولايات المتحدة، الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي وغير ذلك - على إسرائيل تغيير أساليبها. كيف؟ من خلال إدانات سياسية، عقوبات اقتصادية، مقاطعات علمية، وما شابه. وهذا، بطبيعة الحال، أمل مريح جدّا. فهو لا يُلزِم أحدا في إسرائيل على القيام بأية خطوة. دعيتُ قبل سنوات كثيرة إلى المشاركة في المنتدى الدولي للسلام في الشرق الأوسط، والذي عُقِد في البرتغال. كان من بين المتحدّثين أيضًا السياسي الإسبانيّ ميغيل موراتينوس. اتّهمتُ في كلامي الاتحاد الأوروبي بترك معسكر السلام الإسرائيلي، أثناء نضالنا من أجل السلام الإسرائيلي - الفلسطيني. قلتُ إنّ على الأوروبيين أن يتدخلوا وأن يفرضوا على الحكومة الإسرائيلية تغيير أساليبها. بدلا من الإجابة بالاعتذارات العادية، توجّه موراتينوس إليّ قائلا مثلا: "ما هذه الوقاحة؟ هل تطلب من أوروبا أن تقوم بعملكم؟ على الإسرائيليين أنفسهم تغيير حكومتهم. لا تتّهموا كل العالم بإخفاقاتكم! اذهبوا واعملوا من أجل تغيير الأوضاع في بلادكم"! لقد أجابني بغضب، ولكني أدركت في قلبي بأنّه محقّ. لماذا يجب أن يهتمّ أحد بإسرائيل؟ لماذا على باراك أوباما أن ينفق الآن ثروة سياسية من أجل إنقاذ إسرائيل من نفسها، في حين أننا نحن أنفسنا لا نفعل شيئًا؟ لماذا تفرض أوروبا مقاطعة وعقوبات على الحكومة الإسرائيلية وتُتّهم بمعاداة السامية، في حين أنّه ليست هناك في الكنيست أية معارضة جديرة بهذا؟ في الانتخابات الحالية في الولايات المتحدة، يتنافس مرشّحان (سماهم أحدهم "المجنون والفاسدة") بعبارات الإطراء لحكومة نتنياهو. بل إنّ دونالد ترامب يهدّد بزيارتنا قريبا. (لو كنت أمريكيا، لكنت سأخجل. هل هذان هما المرشّحان الأفضل من بين أمة يبلغ تعدادها 320 مليون نسمة؟). ولكن لأنّ الأمر كذلك، فمن السخيف تعليق أيّ أمل على "الضغوط الأمريكية" أو على "الضغوط الخارجية". لا يُشكل نتنياهو محط اهتمام أي سياسي أجنبي، ولا يهمّهم أيضًا إذا كان محظوظا أم لا. يقول لنا قادة العالم، بطريقة أو بأخرى: "أنتم انتخبتموه، فعليكم التخلص منه"! فلاديمير بوتين، الساخر تماما، مستعد لمدح نتنياهو بأكبر قدر ممكن، من أجل إغضاب نظرائه في الغرب. لمَ لا؟ يمكنه أن يتدبر أموره جيّدا، من خلال علاقته بنتنياهو ومن دونها أيضًا. هناك مثل يوناني قديم يقول إنّ الآلهة تحوّل من تريد التخلص منه إلى مجنون. يمكن لذلك أن يفسّر بيبي والاحتلال. سنظلّ عالقين تحت حكم نتنياهو، إلا إذا قامت في إسرائيل قوة سياسية، تضع حدّا لحظّه. ليتني كنت أعلم إلى أي إله أو آلهة يونانية عليّ أن أتوجّه. |