|
||
أحب زوجته، فدوى أيضا، فهي درست المحاماة ولكنها تكرس كل وقتها نضالا لتحرير زوجها. وقفتُ إلى جانبها في جنازة ياسر عرفات التي شارك فيها الكثيرون، ورأيت كيف تذرف الدموع من عينيها. هذا الأسبوع بدأ البرغوثي مع نحو ألف أسير آخر إضرابا مفتوحا عن الطعام. وقعتُ على عريضة لإطلاق سراحه. فهو زعيم منذ الولادة. رغم قامته القصيرة، هو بارز في كل اجتماع. في حركة فتح وصل إلى درجة زعيم الجيل الشاب. عائلة البرغوثي هي عائلة كبيرة، تسيطر على عدة قرى في منطقة رام الله. وُلد مروان نفسه عام 1959 في قرية كوبر. كان أحد أجداده زعيما لثورة عربية عام 1834. التقيت بمصطفى البرغوثي، وهو ناشط من أجل الديمقراطية، مرات عديدة في المظاهرات، وتعرضنا معا للغاز المسيل للدموع. عمر البرغوثي هو من قادة حركة مقاطعة إسرائيل، BDS. ربما يكون حبي للبرغوثي نابعا من التشابه في الأحداث في شبابنا. لقد انضم إلى حركة المقاومة الفلسطينية في سن الخامسة عشرة، وهو السن الذي انضممت فيه أنا أيضا (قبل ذلك بـ 35 عاما) إلى الإيتسل. كنت أشعر أنا وأصدقائي أننا مقاتلون من أجل التحرير، ولكن الحكم البريطاني دعانا "إرهابيين". يتعرض البرغوثي وأصدقاؤه الآن للحالة ذاتها، فهم يشعرون أنهم مقاتلون من أجل التحرير وهكذا تنظر إليهم الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، ولكن سلطة الاحتلال الإسرائيلي تعتبرهم "إرهابيين" فحسب. عندما عُقدت محاكمة البرغوثي في المحكمة المركزية في تل أبيب، ذهبنا أنا وأصدقائي، أعضاء "كتلة السلام"، إلى قاعة المحكمة تضامنا معه. ولكن طردنا الحراس المسلحين، وفقد أحد أصدقائي، المؤرخ تيدي كاتس، إظفر إصبعه الكبير في تلك المعركة العظيمة. قبل سنوات سميتُ البرغوثي "مانديلا الفلسطيني". رغم الفروق في قامتهما ولون بشرتهما، كان بينهما تشابه كبير. كلاهما دعاة سلام، ولكنهما بررا استخدام العنف في الصراع ضدّ الظالمين. كان نظام الأبرتهايد رحيما وفرض على مانديلا فقط حكما مؤبدا واحدا، بينما فرضت إسرائيل على البرغوثي عقوبة مدتها أربعة مؤبّدات، مع إضافة 40 سنة من السجن، بسبب أعمال العنف التي نفذتها منظمة "التنظيم" التي عملت بقيادته. (نشرت "كتلة السلام" هذا الأسبوع بيانا جاء فيه أنّه وفقا للمنطق ذاته كان ينبغي على البريطانيين فرض 91 مؤبّدا على مناحيم بيغن، بعد أن أعطى أوامر لتفجير فندق "الملك داود"، وهي عملية راح ضحيّتها 91 شخصا، الكثير منهم يهود). هناك تشابه آخر بين مانديلا والبرغوثي: عندما هُدم نظام الأبرتهايد من خلال دمج "الإرهاب"، الإضرابات العنيفة والمقاطعة الدولية، ظهر مانديلا باعتباره زعيما وطنيا طبيعيا لجنوب أفريقيا الجديد. يعتقد الكثيرون الآن أنّه عندما تقوم دولة فلسطين الحرة، سيتم اختيار البرغوثي رئيسا بعد أبو مازن. فشخصية البرغوثي جديرة بالثقة، الأمر الذي يجعله قاضيا طبيعيا للصراعات الداخلية. حتى أعضاء حماس، المعارضون لفتح، يميلون إلى الإصغاء للبرغوثي. فهو وسيط مثالي بين كلا الحركتين. قبل سنوات قليلة استجاب الكثير من أسرى الحركتين لمبادرة البرغوثي ونشروا توجها مشتركا لكلا الحركتين لإقامة وحدة وطنية، بل وفصّلوا شروطها. لم تكن تأتي تلك المبادرة بنتائجها. بالمناسبة، يبدو أن هذا سبب آخر لكون سلطات الاحتلال ترفض كل اقتراح لإطلاق سراح البرغوثي، حتى في إطار تبادل أسرى. ربما تظن أنّه عندما يكون البرغوثي حرا، فمن شأنه أن يصبح مركز الوحدة الفلسطينية - وهذا آخر شيء يرغب فيه الاحتلال الإسرائيلي. "فرّق تسدْ" - استخدم المحتلون هذه المقولة الرومانية القديمة في جميع العصور في العلاقة مع السكان الذين يخضعون للاحتلال. نجح الاحتلال الإسرائيلي في ذلك جدا. وفرت الجغرافيا السياسية قاعدة متينة لذلك - تفصل الأرض الخاضعة للسيادة الإسرائيلية بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة. سيطرت حماس على قطاع غزة بواسطة الانتخابات والعنف. إنها ترفض قبول قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تسيطر على الضفة الغربية. إنها حالة عادية جدا لحركات التحرير الوطني. في أحيان كثيرة يحدث بينها انقسام بين المعتدلين والمتطرفين، لصالح المحتل. لا ترغب إسرائيل أبدا بإطلاق سراح البرغوثي، خشية من أن يعيد للفلسطينيين وحدتهم الوطنية. لا يطالب المضربون عن الطعام بإطلاق سراحهم، وإنما بتحسين ظروفهم في السجن. فهم يطالبون، من بين أمور أخرى، بالسماح لنسائهم وأسرهم زيارتهم في أحيان قريبة أكثر، زيادة وقت الزيارات، إيقاف التعذيبات، الحصول على طعام أفضل، وما شابه. إنهم يذكّروننا أيضا بأنّه وفقا للقانون الدولي، فـ "القوة المحتلة" ليست مسؤولة عن نقل الأسرى من الأرض المحتلة إلى أرضل المحتل. هذا تماما ما يحدث تقريبا لكل الأسرى الفلسطينيين. في الأسبوع الأخير فصّل البرغوثي هذه المطالب في مقال له نُشر في "نيويورك تايمز". أشارت الصحيفة إلى أنّ الكاتب هو سياسي وعضو برلمان فلسطيني. كان نشر المقال عملا شجاعا، أعاد للصحيفة احترامها المفقود، بعد أن نشرت الادعاء بأنّ بشار الأسد استخدم الغاز السام، دون أي دليل. ولكن حتى للشجاعة هناك حدود، وبالفعل في اليوم التالي نُشر في الصحيفة تعديل، قيل فيه إنّ البرغوثي أدين "بالقتل وبالعضوية في منظمة إرهابية". كان هذا خضوعا مخجلا للضغوط الصهيونية. الشخص الذي ادعى ملكية هذا الانتصار هو شخص أكرهه بشكل خاص. إنه يسمي نفسه الآن "ميخال أورن"، وهو نائب وزير في حكومة الليكود، ولكنه وُلد في الولايات المتحدة وينتمي إلى اليهود الأمريكيين الذين هم وطنيون إسرائيليون إلى حد بعيد. لقد اعتمد لنفسه الجنسية الإسرائيلية والاسم الإسرائيلي، كي يكون سفير إسرائيل في واشنطن. تحدث أورن في هذا المنصب عن العرب بحقد بشكل خاص إلى درجة أن بنيامين نتنياهو أيضا بدا معتدلا مقارنة به. أشك إنْ كان هذا الشخص قد ضحى بشيء مرة من أجل وطنيته الإسرائيلية. على العكس، فقد أسس عليها سيرة مهنية جيدة. ولكنه يتحدث باستهتار عن البرغوثي، الشخص الذي قضى جزءًا كبيرا من حياته في السجن وفي المنفى. وصف أورن مقال البرغوثي في الصحيفة الأمريكية بـ "الإرهاب الصحفي". يجدر الانتباه إلى المتحدث. الإضراب عن الطعام هو فعل شجاع. إنه السلاح الأخير الذي تبقى للأسرى، الأشخاض العزّل في كل مكان في العالم. تركت مارغريت تاتشر الرهيبة الأسرى الإيرلنديين يتضرعون جوعا. أرادت السلطات الإسرائيلية إطعام المضربين قسرا، ولكن اتحاد الأطباء الإسرائيلي جدير بالاحترام فقد رفض الاستجابة لهذا الطلب. لذا لم يتم تفعيل هذه الطريقة الهمجية. يطالب البرغوثي بأن يحظى الأسرى السياسيون الفلسطينيون بمعاملة أسرى الحرب. ولكن ليس هناك احتمال. يجب المطالبة بأن يحظى جميع الأسرى بمعاملة عادلة. إن مجرد سلب الحرية هو العقوبة الوحيدة المفروضة عليهم. داخل السجون يجب منحهم أفضل الظروف الإنسانية. يبدو أنه في بعض السجون الإسرائيلية نشأت فعلا حالة عادلة من التعاون بين إدارة السجن وممثلي الأسرى. ولكن ليس في كل السجون. هناك انطباع بأنّ مصلحة السجون تعتبر الأسرى أعداء وتحرص على أن يكونوا تعساء قدر المستطاع. يزيد الإضراب الحالي عن الطعام سوء الظروف أكثر فأكثر. هذه السياسة وحشية وغير قانونية، وستثمر أيضا نتائج معاكسة. لا يمكن الانتصار على الإضراب عن الطعام. سينتصر الأسرى في هذه المعركة، وخصوصا عندما يتابع الشرفاء في كل العالم ما يحدث. ربما أيضًا "نيويورك تايمز". أنتظر اليوم الذي سأزور فيه مروان البرغوثي مجددا كرجل حرّ في منزله في رام الله. وأكثر من ذلك ربما تكون رام الله حينذاك مدينة في فلسطين الحرة. |