|
||
تعرفتُ إلى ديانا بوتو عندما ظهرت للمرة الأولى في الساحة الفلسطينية عام 2000، في بداية الانتفاضة الثانية. فهي وُلدت في كندا، وابنة لوالدين فلسطينيين اندمجا فيها، وحظيت بتعليم كندي ممتاز. عند احتدام الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة قدمتْ بوتو إلى البلاد. حظيت المحامية الشابة التي تحدّثت الإنجليزية بطلاقة - حالة نادرة جدا - بإعجاب مديري المفاوضات مع إسرائيل التي بدأت بعد اتفاق أوسلو، فطلبوا مساعدتها في المهمة الوطنية. عندما خمدت المفاوضات خمودا سريريا، اختفت ديانا بوتو عن أنظاري. حتى ظهرت ثانية في الأسبوع الماضي بشكل مثير جدا. يفسر موقع المقال وعنوانه في الصحيفة الأهمية التي نسبها المحررون الأمريكيون إلى أقوالها. ورد في العنوان: "هل نحن بحاجة إلى السلطة الفلسطينية؟" وتبعه عنوان ثانوي، كان لاذعا أكثر: "إغلاق السلطة الفلسطينية!" إنّ ادعاء ديانا بوتو مغر ببساطة. لقد ولّت أيام السلطة. لم تعد تحظى بأية أهمية. يجب القضاء عليها، فورا. أقيمت السلطة الفلسطينية، كما تقول بوتو، لهدف محدّد: التفاوض مع إسرائيل للقضاء على الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة. وبطبيعة الحال كان دورها مقيّدا بالوقت. وفق اتفاق أوسلو، كان ينبغي أن تنتهي المفاوضات لإحلال السلام والقضاء على الاحتلال عام 1999. مرّ منذ ذلك الوقت 18 عاما، دون أي تقدم تجاه الحلّ. الشيء الوحيد الذي تقدم هو مشروع الاستيطان الناجح بشكل هائل. في هذه الظروف، تقول بوتو، أصبحت السلطة الفلسطينية "مقاول ثانوي للاحتلال". فهي تساعده على قمع الفلسطينيين. ومع ذلك، فهي تُشغّل عددا كبيرا من العاملين في الصحة والتعليم الفلسطينيين، ولكن أكثر من ثلث ميزانية السلطة - وحجمها نحو 4 مليارات دولار - مخصص للأمن. تتعاون الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعاملا وثيقا مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. أي إنّها تساعد على تعزيز الاحتلال. فضلًا عن ذلك، تشكو بوتو من انعدام الديمقراطية في السلطة. منذ 12 عاما لم تجرَ فيها انتخابات. يسيطر أبو مازن (محمود عباس) على السلطة بخلاف "القانون الأساسي" للسلطة نفسها. الحلّ الذي تقترحه بوتو بسيط: "آن الأوان للتخلص من السلطة الفلسطينية". فهي تقترح تفكيك السلطة، تحمل سلطات الاحتلال الإسرائيلية مسؤولية التعامل مع السكان الفلسطينيين المحتلين، واتخاذ "استراتيجية فلسطينية جديدة". أية استراتيجية بالضبط؟ حتى في هذه النقطة كان ادعاء بوتو واضحا ومنطقيا. ولكن من هذه النقطة فصاعدا يصبح غامضا وغير واضح. قبل أن أكمل، إليكم ملاحظة شخصية. أنا إسرائيلي، وأعرّف نفسي كوطني إسرائيلي. كوطني في دولة محتلّة أعتقد أنه يحظر علي أن أسدي النصائح لأبناء القومية الخاضعين للاحتلال. ومع ذلك، فقد كرّست أعوامي الـ 79 الأخيرة لتحقيق السلام بين الشعبين - السلام الذي هو، بحسب رأيي، يشكل حاجة ماسة لكلا الشعبين. منذ انتهاء حرب 1948 وأنا أدعم إقامة دولة فلسطينية مستقلّة إلى جانب دولة إسرائيل. بل يزعم بعض من يكرهني في اليمين المتطرف أنّني أصلا اخترعت حلّ الدولتين (وبناء على ذلك نعتوني "خائن"). ومع ذلك تجنبتُ دائما إسداء النصائح للفلسطينيين. حتى عندما أعلن ياسر عرفات في عدة مرات بشكل علني بأنّني "صديقه"، لم أسدي النصائح. نشرت آرائي وعرفها الفلسطينيين كثيرا، ولكنها لم تتضمن إسداء النصائح. الآن أيضًا لست مستعدّا لتقديم النصائح للفلسطينيين بشكل عام، ولديانا بوتو بشكل خاص. ولكن لدي عدة ملاحظات على اقتراحها الثوري. عندما أقرأ كلامها للمرة الثانية والثالثة، أشعر أنّ هناك تفاوت هائل بين تشخيصها وبين اقتراحاتها للتصحيح. ماذا تقترح على الشعب الفلسطيني أن يفعل؟ الخطوة الأولى واضحة: تفكيك السلطة الفلسطينية، إعادة كل أنظمة الحكم الذاتية الفلسطينية إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي. هذه خطوة سهلة. ولكن ماذا سيحدث لاحقا؟ تطرح ديانا بوتو بعض الأفكار الغامضة. "احتجاجات جماعية غير عنيفة". "مقاطعة". التعامل مع "حق عودة اللاجئين" (منذ العام 1948) وأيضا مع "الجمهور الفلسطيني في إسرائيل". تتحدث بشكل إيجابي عن أنّ أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني يؤيّد "حلّ الدولة الواحدة" - وينبغي أن نقول دولة ثنائية القومية. ولكن هل ستؤدي كل هذه النصائح إلى تحرير الشعب الفلسطيني؟ ليس هناك أي دليل على ذلك. أثبتت التجربة أنّه من السهل جدا على سلطات الاحتلال أن تحوّل "الأنشطة الجماعية غير العنيفة" إلى أعمال عنيفة جدا. حدث ذلك في الانتفاضتين الأولى والثانية، وبشكل أساسي في الانتفاضة الثالثة التي بدأت كنشاط غير عنيف، وحينها استخدم الجيش الإسرائيلي القناصة، وخلال عدة أيام تحولت إلى انتفاضة عنيفة جدا. المقاطعة؟ توجد في العالم حركة كبيرة تطالب بمقاطعة إسرائيل. تخاف الحكومة من هذه الحركة وتحاربها بكل الوسائل، حتى لو كانت سخيفة. ولكن هذا الخوف لا ينبع من ضرر اقتصادي قد تلحق به هذه الحركة بإسرائيل، بل نتيجة خشية إسرائيل من الإضرار بسمعتها. الإضرار بالسمعة ضار، ولكنه غير قاتل. مثل الكثير من الآخرين، تستخدم بوتو هنا مثال جنوب أفريقيا. وهو مثال وهمي. رغم أن المقاطعة العالمية على جنوب أفريقيا كانت مثيرة للإعجاب، ولكنها لم تُسقط نظام الأبارتهايد. إنّه وهم غربي، يعكس احتقار "السكان الأصليين". لم يسقط النظام العنصري في جنوب أفريقيا بفضل الأجانب، مهما كانوا لطفاء، وإنما بفضل أولئك "السكان الأصليين" المحتَقَرين. بدأ السود كفاحًا مسلّحا (نعم، أيضًا نيلسون مانديلا الكبير كان "إرهابيّا") وإضرابات جماعية شلّت الاقتصاد. كانت المقاطعة العالمية حاجة ماسة. تعلّق ديانا بوتو الآمال على "الإضرابات الفلسطينية". هل يمكنها أن تشلّ الاقتصاد الإسرائيلي؟ يمكن دائما استدعاء مليون عامل من الصين. تذكر بوتو أيضًا المحكمة الدولية في لاهاي. المأزق هو أنّ اليهود يحظون بحصانة مقارنة بالأغيار. من المعروف أنّ كل الأغيار معادون للسامية. تتجاهلهم إسرائيل كما تجاهلت قرار الأمم المتحدة. أية خيارات أخرى ممكنة؟ بقي البديل العملي الوحيد، حيث تجنّبت بوتو ذكره بفضل حكمتها الكبيرة: الإرهاب. شنّت شعوب محتلّة كثيرة في التاريخ حرب تحرير، صراعا عنيفا ضدّ القامعين. إسرائيليا تُسمى هذه المقاومة "إرهابا" يرتكبه "إرهابيون". نتجاهل للحظة الجانب الأيديولوجي، ونركّز على الجانب النفعي فقط: هل يمكن أن نفكر أنّ معركة "إرهابية" يشنها السكان المحتلّون ضدّ المحتلّ الإسرائيلي يمكن أن تثمر في الظروف القائمة؟ لست متأكدا. لدي شك كبير. أظهرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في الماضي موهبة كبيرة في قمع المقاومة المسلّحة. إذا كان الأمر كذلك، فأية خيارات بقيت لدى الفلسطينيين؟ بكلمة واحدة: الصمود. وتكمن هنا تماما موهبة أبي مازن. إنه زعيم لشعب صامد. شعب مرّ بفترة صعبة من المعاناة والإذلال، ولكنه لم يستسلم. لم يستسلم أبو مازن أيضا. لن يستسلم وريثه المستقبلي ولا مروان البرغوثي. عندما كنت شابا، كنت عضوا في الإيتسيل. في إحدى المرات، خلال الحرب العالمية الثانية، عقدت فرقتي "محاكمة" للماريشال فيليب بيتان، وهو بطل الحرب العالمية الأولى الذي دُعي ليرأس حكومة فرنسا "غير المحتلة" بعد انهيار فرنسا في الحرب العالمية الثانية. أقيمت هذه "الحكومة" في مدينة فيشي وتمتعت بحكم ذاتي تحت سلطة النازيين. رغما عنّي، أديت دور محامي الدفاع في المحاكمة. تعمّقت في الدور واكتشفت متفاجئا بأنّ بيتان تصرّف تحديدًا بعقلانية. لقد أنقذ باريس من التدمير وسمح لمعظم الفرنسيين باجتياز فترة الاحتلال. عندما انهارت الإمبراطورية النازية، انضمّت فرنسا، بقيادة شارل ديغول، إلى المنتصرين. من المفهوم أنّ ديانا بوتو لا تستخدم هذا المثال، المحرك للمشاعر. ولكن من المفضل أن نتذكر. قبل أيام من نشر أقوال بوتو نُشر البلاغ النهائي الذي قدمه نائب رئيس الكنيست بتسلإيل سموتريش للفلسطينيين. سموتريش هو اسم غريب جدا لفاشي يهودي علني (اقترح عليه شخص أن يعتمد اسما عبريا، مثلا سمرتوتر). اقترح سموتريش ثلاثة خيارات على الفلسطينيين: مغادرة البلاد، العيش في البلاد بلا مواطنة، أو المقاومة بالسلاح، وحينها سيعرف الجيش الإسرائيلي "كيف يتعامل معهم". بكلمات بسيطة: الاختيار هو بين (أ) طرد جماعي لنحو سبعة ملايين فلسطيني من الضفة الغربية (بما في ذلك القدس)، من دولة إسرائيل ومن قطاع غزة، الأمر الذي يمثّل إبادة جماعية، (ب) العيش كعبيد في ظل نظام أبارتهايد، حيث يمثّل فيه الفلسطينيون الغالبية فعلا، أو (ج) إبادة جماعية بسيطة. يمثّل الاقتراح الغامض لبوتو في الواقع الخيار الثاني لسموتريش. إنها تذكر بشكل إيجابي بأنّ جزءًا كبيرا من الشعب الفلسطيني يطالب فعليا بـ "حلّ الدولة الواحدة". إنها تتهرب من الإعلان الواضح وتستخدم صياغة مقبولة اليوم: "دولتان أو دولة واحدة". (على وزن: إما نسبح أو نغرق). هذا انتحار، انتحار دراماتيكي، هائل، بكل معنى الكمة. يقود كل من بوتو وسموتريش نحو كارثة. بعد كل هذه السنين، بقي الحلّ العملي الوحيد كما كان في البداية: دولتان لشعبين. دولتان تعيشان بجانب بعضهما البعض بسلام، وربما أيضا بصداقة. لا حلّ آخر. |