|
||
لم يكن هذا القرار قرارا حكيما. ببساطة: كان قرارا غبيا. الاتحاد الأوروبي هو أحد إنجازات البشرية الكبرى. بعد قرون من الحروب، تضمنت حربين عالميّتين سقط فيهما ملايين الشهداء، انتصر في النهاية العقل السليم. توحّدت أوروبا. بداية توحدت اقتصاديا، بعد ذلك، رويدا رويدا، روحانيا وسياسيا أيضًا. كانت إنجلترا، التي أصبحت بريطانيا لاحقا، مشاركة في الكثير من تلك الحروب. كقوة بحرية كبرى، كانت تستفيد منها. كانت سياستها التقليدية التسبب بصراعات ودعم الجانب الأضعف ضدّ الجانب الأقوى. وهكذا أزالت منافسات محتملات. مضى عهد تلك الأيام. لم تعد الإمبراطورية (التي كانت تشتمل على فلسطين أيضا) سوى ذكرى باهتة. بريطانيا هي قوة عظمى وسطى الآن، مثل ألمانيا وفرنسا. لا يمكنها الوقوف وحدها. لكنها قررت القيام بذلك. لماذا؟ لا أحد يعلم السبب تحديدا. ربما جاء القرار إزاء حالة مزاجية عابرة. نوبة غضب. توق إلى تلك الأيام الجيدة، عندما كان البريطانيون يغنون "بريطانيا تسيطر على الأمواج" وعن "بناء القدس في الحقول الخضراء واللطيفة التي في إنجلترا". (هل رأى أحدكم الكثير من "الحقول الخضراء واللطيفة" في منطقة القدس؟). يعتقد الكثيرون أنه لو كانت هناك جولة ثانية، كان البريطانيون سيغيّرون رأيهم. ولكنهم لا يحبون الجولات الثانية. (وفقا لهذه الطريقة، في حال لم يحقق أي مرشّح غالبية ساحقة في الجولة الأولى، يتم إجراء جولة ثانية بين المرشّحَين ذوي نسبة الأصوات الأعلى، بحيث يحقق الفائز في النهاية غالبية ساحقة). على أية حال، يُعتبر القرار البريطاني بخصوص أوروبا توجها حادّا نحو اليمين. بعد ذلك كانت الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب. ترامب يميني، بل يميني متطرف. لا يوجد بينه وبين الحائط اليميني أي فاصل (سوى نائب الرئيس، الذي هو يميني أكثر منه). كان يبدو أنّ هذين القرارين معا - البريطانيّ والأمريكي - ينبئان بموجة يمينية عالمية. في بلدان عديدة برز اليمينيون، ومن بينهم فاشيون معلنون، عضلاتهم وآمنوا بفوزهم القريب. شعرت مارين لوبان بالنصر الوشيك، وشعر المشابهون لها في أنحاء القارة، من هولاندا حتى هنغاريا، بشعور شبيه. عرف التاريخ مثل هذه الحالات في الماضي. كانت هناك موجة بدأت في عهد بينيتو موسوليني بعد الحرب العالمية الأولى. لقد أخذ الفاشس، وهو رمز روماني قديم، وجعله مصطلحا عالميا. بعد ذلك جاءت الموجة الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي موجة أغرقت نصف الكرة الأرضية، من برلين حتى شانغهاي. كان يبدو أنّ الموجة اليمينية الحالية ستغمر كل العالم. وحينها حدث تغيير كليا. لم يكن يبدو أي شيء مستقرا مثل النظام السياسي في فرنسا، الذي تسيطر عليه أحزاب مؤسسة وشريحة من أعضاء الأحزاب القديمة. وها قد جاء - ويا للعجب - شخص غير معروف إطلاقا، ليس سياسيا، وبشكل مفاجئ تغلب على الآخرين. تغلب على الاشتراكية، والفاشية أيضا. هذا الرجل هو إيمانويل ماكرون. إنّه شاب جدّا (39) ليتولّى منصب رئيس، رغم أنه عديم الخبرة تماما، فيما عدا أنه شغل منصب لمدة قصيرة كوزير اقتصادي. وهو أيضا مؤيّد جدا للاتحاد الأوروبي. مجرّد انحراف عشوائي، كما عزّى أعضاء الأحزاب القديمة أنفسهم. لا يمكن لذلك الوضع أن يستمر. ولكن حينها أجريتْ في فرنسا انتخابات برلمانية، وتحوّل الطوفان إلى تسونامي. كانت النتيجة غير مسبوقة تقريبًا: منذ الجولة الأولى حقق ماكرون غالبية ساحقة في البرلمان، كانت قابلة للزيادة في الجولة الثانية. اضطرّ الجميع إلى التفكير مجددا. من الواضح أنّ ماكرون كان على العكس تماما من "الموجة اليمينية الجديدة". ليس فقط بشأن الاتحاد الأوروبي، ولكن تقريبًا أيضا بكل الأمور الأخرى. إنه رجل الوسط، وهو يساري أكثر من كونه يمينيا. فهو متواضع، مقارنة بدونالد ترامب الأمريكي. يعتبر متقدما مقارنة بتيريزا ماي البريطانية. نعم، تيريزا ماي. ماذا فكرت؟ استلمت الحكم بعد استفتاء شعبي حول الخروج من أوروبا، وورثت غالبية مريحة. لكنها كانت تتمتع بعدم الهدوء. يبدو أنها أرادت أن تثبت أنّها وحدها قادرة على الحصول على غالبية أكبر. تحدث مثل هذه الأمور لدى السياسيين. (هل تذكرون شمعون بيريس بعد مقتل رابين؟) من ثم فقد أعلنت عن انتخابات جديدة. حتى أنا المسكين، ذو الخبرة المحدودة، بإمكاني أن أقول لها إن هذا خطأ. لسبب ما، لا يحبّ الناس الانتخابات المبكّرة. ربما هذه لعنة الآلهة. من يعلن عن تقديم الانتخابات، يخسر. فقدت تيريزا ماي تأييد الغالبية. لم يكن هناك شريك ملائم للائتلاف. لذا اضطرت إلى التوجه للحزب الأكثر حقارة، الحزب البروتستانتي اليميني المتطرف في شمال إيرلندا، وهو حزب يبدو ترامب مقارنة به شخصا متقدما. فهو حزب يعارض حقوق السحاقيات، الإجهاض، وأمور كثيرة أيضا. ماي هي مسكينة. من هو الفائز الأكبر؟ أكثر مرشح غير متوقّع: جيريمي كوربين. زعيم يساري متطرف. يحتقره الكثيرون في حزبه تماما. ولكنه كان قريبا من الحصول على غالبية في الانتخابات، وعلى أية حال لا يسمح لتيريزا بالسيطرة على نحو فعّال. يذكّرني إنجاز كوربين بإنجاز مشابه حدث في الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية. أثارت المرشّحة الرسمية، هيلاري كلينتون، كراهية واسعة النطاق في حزبها، وحينها جاء مرشّح غير متوقّع تماما وأثار إعجابا وحماسة، بشكل خاص في أوساط الشباب: بيرني ساندرز. كان ساندرز مرشّحا غريب الأطوار تماما: مسنّ في الثامنة والسبعين، وسيناتور مخضرم. ولكن الشباب احتفلوا معه وكأنه رجل شاب، في الأربعين من عمره. لو اختاره الديمقراطيون ليترأس حزبهم، لا شكّ أنّه كان سيجلس الآن في البيت الأبيض. (فقد حصلت هيلاري المسكينة أيضا على غالبية الأصوات في البلاد). هل هناك عامل مشترك بين كل الانتصارات وشبه الانتصارات هذه؟ هل تمثّل "موجة"؟ للوهلة الأولى، كلا إطلاقا. لم ينتصر اليسار (ترامب، ماي، والخروج من الاتحاد الأوروبي)، ولم ينتصر اليمين (ماكرون. كوربين، وساندرز) أيضا. هل يعني ذلك أنّه لا يوجد بينهم أي عامل مشترك إطلاقا؟ تحديدا يوجد: الثورة ضدّ المؤسسة. كان لكل الأشخاص الذين فازوا، أو كانوا على وشك الفوز، عامل واحد مشترك: لقد أطاحوا بالأحزاب القائمة. فاز ترامب بخلاف رغبة الحزب الجمهوري. كافح ساندرز ضدّ المؤسسة في الحزب الديمقراطي. هزم كوربين أعضاء حزب العمال. وانتصر ماكرون على الجميع. كان التصويت في الاستفتاء الشعبي ضدّ الاتحاد الأوروبي ضربة قاضية للمؤسسة البريطانية. إذا، ما هي الموجة الجديدة؟ موجة الثورة ضد المؤسسة، أيا كانت. كيف تسير الأمور في إسرائيل؟ لم نصل إلى هذه الحالة بعد. نحن متأخرون دائما. كانت الصهيونية الحركة القومية الأخيرة في أوروبا. إسرائيل هي الدولة الأخيرة التي قامت. نحن الآن الإمبراطورية الاستعمارية الأخيرة في العالم. ولكن في النهاية نحن نصل دائما. انقضى عهد نصف إسرائيل، كل اليسار والوسط تقريبا. حزب العمل، الذي سيطر على الحكم بشكل شبه تامّ لمدّة 40 عاما، هو حكم بائس. يحاول اليمين، المقسّم إلى أربع أحزاب متنافسة، فرض جدول أعمال شبه فاشي في جميع مجالات الحياة. آمل أن يحدث شيء ما عندنا قبل أن ينجح اليمين في مهمّته. نحن بحاجة إلى قائد أو قائدة لديهما مبادئ، مثل كوربين أو ساندرز. نحتاج إلى زعيم شاب ومثالي مثل ماكرون. شخص يهزم كل الأحزاب القائمة منذ عهد الاحتلال، قادر على البدء من البداية. وإذا تبنّينا شعار ماكرون فسنقول: "إلى الأمام، إسرائيل"! |