|
||
ولهذا نشأ وضع حرج. تجهّز نتنياهو لزيارة بودابست من أجل لقاء نظيره، فيكتور أوربان، المشتبه بمعاداة السامية إلى حد معين أيضا. ولكن في نظر نتنياهو، فإنّ أوربان اليمينيّ المتطرف هو شريك رأي. وعصفت الجالية اليهودية في هنغاريا. وطالب أعضاؤها بتأجيل الزيارة حتى إزالة الملصقات الخاصة بسوروس عن الجدران. وفي النهاية أُزيل معظمها - وإنْ لم يكن كلها - والتقى نتنياهو بأوربان. ولكن القضية كلها أثبتت أنّ مصالح دولة إسرائيل لا تتماشى بالضرورة مع مصالح الجاليات اليهودية في العالم، كما يدّعي الصهاينة بلا كلل. وقبل أيام قليلة من اللقاء في هنغاريا ظهر أوربان في حفل ذكرى الأدميرال ميكلوش هورتي، الذي كان رئيس الوزراء الهنغاري في فترة الحرب العالمية الثانية، عندما تعاونت هنغاريا مع ألمانيا النازية، كما فعلت كل دول شرق أوروبا (فيما عدا بولندا، التي كانت محتلّة من قبل الألمان). وكانت هذه الحادثة حادثة محرجة أخرى. كيف يمكن أن يُمجّد أوربان هورتي، المتعاون مع النازيين، عشية زيارة رئيس دولة اليهود؟ وفي الواقع، فإنّ أفعال هورتي لا تزال حتى اليوم مثيرة للجدل الحاد. لقد عرّف نفسه معادٍ للسامية وكان مليئا بالتناقضات. ولكنه نجح في المهمة التي فشل فيها سائر زعماء أوروبا: لقد أنقذ حياة مئات آلاف اليهود، من خلال انتهاكه لأوامر هتلر وخداعه. وإحدى الناجيات من الكارثة هي عمتي، يهودية ألمانية تزوّجت يهوديا هنغاريا، طردها النازيون إلى هنغاريا، ونجت في الغيتو، ووصلت في النهاية إلى البلاد. كان "تومي" لبيد من بين الناجين أيضا. لولا الحيل الملتوية لهورتي، فربما لم يكن سيُولد يائير لبيد. ولا أستطيع أن أتوقف عن سرد نكتة من تلك الفترة. وبعد الهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر (كانون الأول 1941)، أمر هتلر كل شركائه بإعلان الحرب على الولايات المتحدة. طُلب السفير الهنغاري في واشنطن أيضا تقديم تصريح الإعلان عن الحرب لوزير الخارجية الأمريكي، دوردال هال. قرر الأخير السخرية من السفير. "هنغاريا؟ هنغاريا؟"، تساءل، "هل يُعقل؟ جمهورية؟" أجاب: "كلا، سيّدي، نحن مملكة". "حقّا؟ ومَن هو ملككم؟" "ليس لدينا ملك. لدينا وصيّ عرش، الأدميرال هورتي". "أدميرال؟ إذا هل لديكم أسطول كبير؟" "ليس لدينا أسطول. ليس لدينا ساحل بحر مُطلقًا". (أصبح هورتي أدميرالا عندما كانت هنغاريا لا تزال جزءا من الإمبراطورية النمساوية المجرية، التي كان لديها أسطول صغير). "غريب. مملكة دون ملك، وأدميرال دون أسطول. إذا لماذا تعلنون الحرب على الولايات المتحدة؟ هل لديكم مطالب منّا؟" "كلا، لدينا مطالب من رومانيا". "إذا لماذا لا تعلنون الحرب على رومانيا؟" "لا نستطيع. رومانيا هي حليفتنا". عذرا على هذا المقدمة. نعود لنتنياهو. لقد عملت الحكومة الإسرائيلية للتو على صعيدين، عندما أثارت حفيظة يهود أمريكا والعالم كله. الأول يتعلق بحائط البراق، المكان الأكثر قداسة في اليهودية. ولأنني ملحد عتيد، فلا تهمني الأماكن المقدّسة. ناهيك عن أن حائط البراق ليس من أنقاض المعبد الذي أقامه قبل ألفي عام الملك هيرودوس الشرير، وإنما مجرّد جدار يدعم تلّة التراب التي بُني عليها الهيكل. وكانت زيارتي للمرة الأخيرة في الموقع عام 1946. كان يحدّ الحائط المثير للإعجاب وقتذاك زقاق ضيّق، جعل الحائط يبدو طويلا أكثر. بعد حرب 1967 تمت إزالة كل "حيّ المغاربة"، الذي كان قريبا من الحائط، من أجل إنشاء باحة حائط البراق الكبيرة. ما زلت أذكر الوجه الطفلة المذعورة، من مهجّري الحيّ، وهي تحمل على ظهرها خزانة في زقاق المدينة القديمة. وحصل الحاريديم على حائط البراق، مقابل الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. بطبيعة الحال، نشأ فصل بين المصلين والمصليات. ولكن مع تعزز النسوية، أصبح هذا الفصل إشكاليا. وفي النهاية وُجِدت تسوية: أصبح جزء صغير جدّا من الحائط موقع صلاة "مشترك"، للرجال والنساء معا، وأيضا للطائفة الإصلاحية والطائفة المحافظة. تشكّل هاتان الطائفتان أقلية صغيرة في إسرائيل، ولكنها غالبية بين يهود الولايات المتحدة. والآن، كردّ فعل على ضغوط الأرثوذوكس، يريد نتنياهو إلغاء هذه التسوية، الموضوع الذي يثير عاصفة لدى يهود الولايات المتحدة. وكأنّ ذلك لا يكفي، إذ يريد نتنياهو أيضا إلغاء الاعتراف باعتناق اليهودية الذي يجري من قبل الحاخامات الإصلاحيين والمحافظين. بما أنه ليس هناك في إسرائيل فصل بين الدين والدولة، فيكفي من أجل ذلك قانون عادي. في الوقت الراهن أصبحت المؤسَّسات العامة في البلاد إلى متديّنة أكثر، إلى درجة نشوء كلمة عبرية جديدة "تديين". ولا تهتم الطائفتان الإصلاحية والمحافظة في أمريكا بالاحتلال أبدا، القمع الوحشي للفلسطينيين، ولا بأعمال القتل اليومية. إنها تدعم الحكومة الإسرائيلية دون فرض شروط. ولكن حائط البراق واعتناق اليهودية يعصفان بهاتين الطائفتين كثيرا. فقد اعتنقت إيفانكا ترامب اليهودية أيضًا بهدف زواجها. أي أن اعتناق اليهودية هو صفقة مهمة. تُعرّف إسرائيل رسميا كـ "دولة يهودية وديمقراطية". هناك مشروع قانون جديد قد يحذف كلمة "ديمقراطية" من الصياغة، بحيث تبقى فقط "دولة يهودية". يعتبر الكثيرون إسرائيل مقرا عالميا لكل اليهود. أعلن نتنياهو في أكثر من مرة أنّه يعتبر نفسه زعيما وحام لكل يهود العالم. وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يكون هناك تعارض بين مصالح اليهود في العالم ومصالح إسرائيل؟ يمكن أن يحدث ذلك الآن، وقد حدث عند ولادة الصهيونية. تحدّث بنيامين زئيف هرتسل، وهو أيضًا يهودي هنغاري، مع الزعماء المعادين للسامية في روسيا القيصرية ودول أخرى، ووعدهم بالمساعدة على التخلص من اليهود في بلادهم وإحضارهم إلى فلسطين. كانت تكمن هذه المصلحة المشتركة في تحالفات غريبة كثيرة على مدى الأيام. ولقد فضّل معادو السامية الصهاينة دائما. ذكر أدولف آيخمان في سيرته الذاتية التي كتبها في السجون الإسرائيلية أنّه اعتبر الصهاينة "جزءا يهوديا ذا اقيمة". وهلم جرا. وانشق أبراهام شتيرن، الذي كان يلقب بـ "يائير"، عن "المنظمة العسكرية الوطنية" في بداية الحرب العالمية الثانية لأنّه عارض وقف إطلاق النار من قبل الإيتسيل مع البريطانيين. لهذا أسس شيترن مجموعة جديدة، سمّاها البريطانيون "عصابة شتيرن"، وكانت تستند إلى مبدأ "عدوّ عدوّي صديقي". أرسل شتيرن مبعوثين إلى السفارات الألمانية من أجل عرض التحالف مع ألمانيا، ولكن هتلر تجاهله. في النهاية أطلق البريطانيّون النار على شتيرن. وفي السنوات الأولى من قيام دولة إسرائيل، عندما أراد بن غوريون زيارة الولايات المتحدة للمرة الأولى كزعيم للدولة، حثّه مساعدوه على ألا يذكر فيها الهجرة، كي لا يُغضب يهود أمريكا، الذين كانت أموالهم ضرورية بشكل عاجل لشراء الأطعمة. في البداية عارض بن غوريون ولكنه خضع لاحقا. وفي تلك الفترة كتب صديقي، ميخال ألماز، قصة فكاهية عن جالية صغيرة من اليهود فاحشي الثراء، الذين كانوا يمتلكون مناجم ألماس، في منطقة نائية من أفريقيا. عندما كانت الدولة بحاجة ماسة إلى المال، لشراء الطحين لصنع الخبز، اختارت الوكالة اليهودية رجل العلاقات العامة الأكثر موهبة لديها. لذا جمع أعضاء تلك الجالية وخطب أمامهم الخطاب الأكثر تأثيرا من الخطابات التي ألقاها في حياته. ونجح خلالها في ذرف دموع كل الحضور. وفي اليوم التالي تلقى ألماز رسالة من رئيس الجالية: "لقد صدمتنا كلماتك لهذا قررنا تسليم كل ممتلكاتنا للأبناء والهجرة إلى إسرائيل كطلائع". وكان الهدف الرسمي للصهيونية هو وصول كل يهود العالم إلى إسرائيل. كان يعتقد هرتسل أنّ تلك الخطة ستنجح، وكتب ذات مرة أنه بعد تحقيقها فقط سيُدعى مواطنو الدولة اليهودية يهودا. وكل من يختار عدم الهجرة إلى إسرائيل فلن يعتبر يهوديا بل ألمانيا، أمريكيا، وغير ذلك. رائع. ولكن لو حدث ذلك، ماذا كان سيجبر الآن دونالد ترامب على فرض فيتو على كل قرارات الأمم المتحدة التي تدين إسرائيل على أفعالها في الأراضي المحتلة؟ مَن كان سيعمل ضد الحركات التي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل؟ لم تنته مغامرات نتنياهو في هنغاريا في قضية سوروس وهورتي، وقد باتت نهايتها بعيدة. وعندما كان نتنياهو في بودابست، شارك في لقاء مغلق مع أربعة من رؤساء الحكومات من أوروبا الشرقية: هنغاريا، بولندا، سلوفاكيا، وتشيكيا. نسي تقني فنّي إغلاق ميكروفونات الصحفيين الذين انتظروا في الخارج، لهذا نجحوا طيلة 20 دقيقة في سماع أقوال نتنياهو أثناء الخطاب السرّي. وتحدث نتنياهو بحرية أمام أصدقائه اليمينيين المتطرفين الديمقراطيين الجدد المشكوك بهم. وقال إنّ أوروبا الغربية الليبرالية، التي تصرّ على جعل مساعداتها لإسرائيل مشروطة بالحفاظ على حقوق الإنسان، "مجنونة". وأضاف قائلا: إنها "تنتحر" عندما تسمح للمسلمين بالدخول إلى أراضيها، موضحا أنها لا تفهم أنّ إسرائيل تشكل حاجزا أخيرا أمام تدفّق المسلمين. بماذا يذكّر ذلك؟ كتب هرتسل في كتابه "الدولة اليهودية"، الكتاب المقدّس الصهيوني: "من أجل أوروبا سنشكّل هناك (في فلسطين) جزءًا من السور ضدّ آسيا. سنكون الجبهة الأمامية للحضارة (الأوروبية) ضدّ الهمجية (العربية)". وكُتبت هذه السطور قبل 121 عاما، في ذروة عصر الاستعمار. أصبحت تكرر في وقتنا هذه الأقوال حول أوروبا وفق ما قال نتنياهو بصفتها "مجنونة". وفي الصراع بين نتنياهو، أوربان وشركائه ضدّ سوروس وأشباهه على الحكم الراعي لحقوق الإنسان، فمن المتوقع فوز سوروس. |