|
||
ما يحدث الآن استعدادا للانسحاب من غوش قطيف يشبه هذا الحادث إلى حد ما. قطار المستوطنين يجري بسرعة باتجاه المفترق المصيري. الديموقراطية الإسرائيلية تعترض طريقه. إن أعجوبة فقط من شأنها أن تجعل المستوطنين ينجحون في التوقف قبل فوات الأوان. وأعجوبة فقط ستمنع الاصطدام المروّع. كما تبدو الأمور الآن، فإن الاصطدام سيحدث لا محالة، وسيؤدي إلى أكبر أزمة في تاريخ إسرائيل منذ حرب عام 1967. المستوطنون لا يرغبون في التوقف، وهم غير قادرين على ذلك أيضا. إنهم مندفعون نحو المواجهة، واثقين من قوتهم. إن سنين طويلة من التعاون الخفي، كانت كفيلة بإقناعهم بأن قيادة الدولة، بضباطها وبموظفيها، تقف في صفهم. أنهم ينظرون إلى المعسكر الآخر نظرة ازدراء. إنهم لا يأبهون للأغلبية الديموقراطية كما سخر الطغاة الفاشيون في الثلاثينيات من الديموقراطيات " المتعفنة والمنحلّة " . حتى ولو أراد المستوطنون كبح القطار، كما حاول ذلك السائق المسكين، فلن يقدروا على ذلك. إن طبيعة الحركات المتعصّبة هي أنها تخلّف وراءها حركات أكثر تعصّبا، تخلف بدورها حركات أكثر تعصبا أيضا، والحثالة هي التي تعزف الإيقاع. شخص ما سيبدأ العنف، شخص ما سيبدأ بإطلاق النار، وآلاف مؤيدي يغئال عمير يريدون أخذ نصيب لهم في المجد. الأغلبية الديموقراطية واهنة وبائسة بالفعل. إنها تراقب ما يحدث كمن يشاهد مباراة كرة قدم. لقد تحوّل نضال الدولة ومواطنيها إلى رياضة للمشاهدة. ولكن هذا الأمر يمكن أن يتغيّر فجأة، إذا حدثت أحداث تزعزع الإسرائيلي العادي وتخرجه من سكينته الكسولة. مثلا، عندما يُقتل أول جندي برصاص المستوطنين. ماذا سيحدث عندها؟ سيستيقظ الإسرائيلي فجأة، الإسرائيلي الذي غلبه النعاس أمام جهاز التلفزيون، بينما كانت إحدى يديه تمسك بكأس البيرة، والأخرى بكيس من المكسّرات. وعندها سيدرك أن هذه لم تكن مباراة كرة قدم، وأن هذا الأمر يخصّه ويخصّ عائلته، وأن زمرة من الحاخامين الذين يدعون إلى مجيء المسيح المنتظر، وبلطجيون عنصريون من شأنهم أن يسيطروا على حياته وأن يحوّلوا دولته إلى إيران يهودية. صحيح أنه من الممكن ألا يحدث ذلك بالضرورة، فبعد اغتيال رابين على يد يميني متطرّف، تلميذ من تلاميذ المستوطنين وطالب في جامعة بار-إيلان، سنحت الفرصة لكسر اليد الخانقة لليمين المتطرّف بضربة قاضية. هذا لم يحدث. حماقة شمعون بيرس منعت الحسم الفوري في الانتخابات. لقد ابتلعت الأغلبية الطعم وسقطت في فخ " المصالحة " ، الذي نصبه لها اليمينيون بهدف النجاة من خطر القضاء عليهم. ولكن، وكما تبدو الأمور الآن، هناك احتمال كبير في أن يحدث ذلك الاصطدام، فمن سينتصر؟ القوى غير متوازنة. فمن جهة هناك أقلية تغمرها النشوة ولها معتقدات عنصرية-دينية صاعقة وزعامة قوية ومتحدة. يوجد لدى هذا المعسكر جيش نظامي وقوى احتياط، يمكن استنفارها دون إشعار مسبق. يوجد في المستوطنات حوالي 200 ألف رجل وامرأة، شيخ وطفل، وجزء كبير منهم (بمن فيهم الأولاد وحتى الرّضع) يمكن تفعيلهم في أي وقت من الأوقات. كثيرون منهم خدموا في الجيش، ومعظمهم مسلحون من الرأس حتى أخمص القدم. هناك قوى بشرية إضافية في الحلقات الدينية العسكرية، في مؤسسات " حباد " وفي سائر الحلقات الدينية والكتّاب، وهي جاهزة للتجنيد. هناك عدد لا بأس به من الأفراد المستعدين للإسراع لنجدتهم. بالمقابل تقف أمامهم الأغلبية غير المنظمة ومعدومة الزعامة. إنها تتذمّر في أمسيات السبت في صالوناتها، تستحم في " جاكوزي " اليأس الدافئ والمريح. ولا يمكن لأشخاص مثلي، ممن قضوا سنوات طويلة في محاولات جوفاء لإخراج هذه الأغلبية إلى الشوارع ودعوتها للتظاهر وتعزيز هيكلها ونفخ روح القتال فيه، أن يعلّقوا آمالا كبيرة على هذه الأغلبية. إلا أن من شأن الجمهور الديمقراطي أن يفاجئنا، كما أحسّ بهذا الأمر الطغاة في الحرب العالمية الثانية. لقد أحسّ أريئيل شارون بذلك بعد مجزرة صبرا وشتيلا، حين اجتاح آلاف " اللا مبالين " الساحات بهبّة من الأحاسيس. لو حدث ذلك ثانية فإن الأغلبية الديمقراطية هي التي ستنتصر. إن كابوس المستوطنين الأكثر إخافة سيتحقق: عملية إخلاء غوش قطيف ستتحوّل إلى عملية شاملة لإخلاء المستوطنات في الضفة الغربية. يمكن للضغط الأمريكي فجأة أن يكون ضغطا ناجعا. في مثل هذه الدوامة، ستتحوّل كل مقاصد وبرامج وحيل أريئيل شارون – وربما هو أيضا – لأشياء لا مفعول لها. ديناميكية هذه العملية ستقذف به كخشبة بين أمواج السونامي. يمكن لذلك أن يحدث. ولكن ليس بالضرورة. لربما سينجح سائق القاطرة في التوقف في اللحظة الأخيرة. ربما ستنحرف الديمقراطية عن سكة الحديد بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ربما يحدث ما حدث في جمهورية فايمار. ربما سيتم إرجاء الانفصال. ربما. هناك أمر واضح واحد: أن لا شيء واضح. لا يمكن لأي شخص أن يتنبأ اليوم كيف سيكون الوضع في " اليوم التالي " . ولكننا لا نجلس في قاعة المسرح وننتظر الفصل الخامس لكي نعرف نهاية المسرحية. كل إنسان في إسرائيل هو ممثل في هذه المسرحية، بأعماله وإهماله، شاء ذلك أم أبى. هناك وظيفة هامة في هذه المسرحية للأشخاص ذوي الإدراك الديمقراطي المتفتح – نشطاء السلام، نشطاء حقوق الإنسان، نشطاء اجتماعيين، نشطاء المؤسسات الديمقراطية. يتوجّب على هؤلاء إيقاظ الأغلبية من سباتها وإخراجها إلى الشارع وتقوية استعدادها لحماية الديمقراطية وللوقوف أمام هجوم اليمين المتطرّف. عليهم رفع راية البدائل عاليا وراية الإمكانيات الأخرى لكي تراها الأغلبية كل حين. على سبيل المثال: تدور الآن في الشوارع حربا من الألوان. لم ينجح المستوطنون في " صبغ البلاد باللون البرتقالي " ، كما كانوا يتفاخرون، إلا أن الأشرطة البرتقالية ترفرف على الكثير من الهوائيات. بالمقابل، وُلدت مبادرات متقطعة لرفع شريط آخر، ولكن كما عهدنا الديمقراطيين فإن كل شيء يتم لديهم دون تنظيم، دون أدنى حد من التنسيق، فهنا شريط أزرق وهنا شريط أزرق وأبيض وهناك شريط أخضر. فوضى. ولكن يمكن لذلك أن يكون أول طائر سنونو. الجمهور الديمقراطي يستيقظ ببطء. هذا ما يحدث دائما. علينا أن ندفعه قدما. أنفي يشم رائحة التغيير. إنها رائحة مسكرة، كرائحة أزهار الدفلى والزنزلخت التي تغرق الآن شوارعنا. رائحة الشم لديّ قوية أيضا فيما يتعلق بالتغييرات الكبيرة. لقد حدث تغيّر تام في حياتي عندما بلغت سن العاشرة: لقد انتقلت دفعة واحدة إلى بلاد، إقليم، لغة، ثقافة اسم وطبيعة مختلفين. منذ ذلك الحين أصبحت منفتحا على التغييرات الدراماتيكية ومستعدا لها في أي وقت. لقد شعرت بهذه التغييرات مرتين أخريين على الأقل: حرب عام 1948 وإقامة الدولة، وحرب الأيام الستة وإقامة الإمبراطورية الإسرائيلية. لربما يشتم أنفي التغيير القريب قبل كثيرين آخرين، كما شعرت حيوانات كثيرة بالسونامي المقترب قبل بني البشر. هناك فرصة جديدة أمام دولة إسرائيل، تتعدى مناورات " الانفصال " ومكائد شارون. يمكن " لليوم التالي " أن يفتح أبوابا كبيرة كان كثيرون قد يئسوا منها، استعدادا لإنهاء الاحتلال والتوصل إلى سلام بقدر ما من المصالحة والاحترام المتبادل، والأهم من ذلك: إنعاش وجه الدولة ذاتها كدولة ديمقراطية، ليبرالية، غير متدينة ومتساوية. هذا لن يكون، بطبيعة الحال، منزل من السماء. هذا متعلق بكل فرد منا. هذا متعلق، بادئ ذي بدء، بإيماننا بأن هذا اليوم قادم لا محالة. وكما كنا نغني: " لا تقولوا: سيأتي يوم – بل ادعوه إليكم! " |