|
||
"أنتم! أنزلوا أيديكم عن التبت!" هذا ما يدعو إليه المجتمع الدولي، "ولكن ليس عن الشيشان! ليس عن إقليم الباسك! وبالتأكيد ليس عن فلسطين!" وهذه ليست نكتة. أنا مثل الجميع أؤيد حق الشعب في هضبة التبت بالاستقلال، فكم بالحري الحكم الذاتي؟ أنا مثل الجميع أستنكر أعمال الحكومة الصينية هناك. ولكني لست مثل الجميع، فأنا غير مستعد للخروج في مظاهرات. لماذا؟ لأن لديّ إحساس غبي بأن شخصا ما يغسل دماغي، وأنه توجد هنا مناورة من المداهنة. لا يهمني أنه يوجد هنا تلاعب بادي للعيان. فليس صدفة أن تنشب القلاقل في التبت عشية افتتاح الاوليمبياد في بيجين. هذا مقبول. يُسمح للشعب الذي يناضل من أجل حريته أن يستغل كل الفرص التي تعترض سبيله من أجل دفع نضاله قدما. أنا أؤيد أبناء التبت رغم أنه من الواضح أن الأمريكيين يستغلون هذا النزاع لاحتياجاتهم. من الواضح أن السي آي إي قد خطط ونظم القلاقل، وأن وسائل الإعلام الأمريكية تقود الحملة الدولية. هذا جزء من الصراع الخفي بين القوة العظمى المسيطرة، الولايات المتحدة، وبين القوة العظمى الصاعدة، الصين – نوع من الإصدار الجديد "للعبة الكبيرة" التي دارت رحاها في القرن التاسع عشر في وسط أسيا بين الإمبراطورية البريطانية وروسيا. التبت هي ورقة في هذه اللعبة. أنا مستعد حتى لتجاهل الحقيقة بأن أبناء التبت المهذبين كانوا قد نفذوا مجزرة ضد الصينيين المساكين، قتلوا النساء والأطفال وحرقوا الحوانيت والمنازل. مثل هذه الأمور المستنكرة يمكن أن تحدث خلال حرب تحرير. لا، ما يضايقني هو المداهنة التي تنتهجها وسائل الإعلام الدولية. إنها تصول وتجول حول الأحداث الجارية في التبت. يكيلون، في آلاف المقالات الرئيسية وبرامج المقابلات، الشتائم والسباب على الصين الشريرة. هناك انطباع بأن أبناء التبت هم الشعب الوحيد في العالم الذي تم انتزاع حقه في الاستقلال، بيد غاشمة، حيث أنه إذا رفعت بيجين يديها القذرتين فقط عن بلاد الرهبان برتقاليي العباءات، سيتم تصحيح العالم. لا شك في أن شعب التبت يستحق أن يحكم بلاده، أن يدفع ثقافته الخاصة قدما، أن ينمّي مؤسساته الدينية وأن يمنع من المستوطنين الغرباء إغراق بلاده. ألا يستحق الأكراد في تركيا، العراق، إيران، وسوريا الحقوق ذاتها؟ ألا يستحقها سكان الصحراء الغربية التي تحتلها المغرب؟ ألا يستحقها أبناء الباسك في أسبانيا؟ الكورسيكيون في فرنسا؟ ألا يستحقها الإرلنديون الشماليون، الذين ما زالوا تابعين للسلطة البريطانية، حتى بعد أن تم التوصل هناك إلى وقف لإطلاق النار يستحق التقدير؟ وقائمة المطالبين بالاستقلال طويلة جدا. لماذا تحتضن وسائل الإعلام الدولية نضال تحرير واحد، في وقت تتجاهل فيه، باستخفاف كبير، نضال تحرير آخر؟ لماذا يكون دم تبتي واحد أكثر حُمرة من دم ألف أفريقي في الكونغو الشرقية؟ أعود وأفكر في هذا اللغز، ولا أجد له حلا وافيا. لقد طالب الفيلسوف عمانوئيل كنت بأن نتصرف بشكل يمكن لخلاصة أعمالنا فيه أن تتحول إلى قانون عام. هذا ما سماه "الأمر التام". (الصيغة الأصلية أكثر تعقيدا بكثير، ولكن ما العمل، كنت كان ألمانيا.) هل التعامل مع مشكلة التبت يلائم هذه المطالبة؟ هل يُشكل مثالا يحتذى به لمعالجة تطلعات التحرير لكل الشعوب المقهورة؟ لا. إذا كان الأمر كذلك، ما الذي يحذو بوسائل الإعلام الدولية كي تميز بين نضالات التحرير المختلفة التي تدور رحاها الآن في مختلف أنحاء العالم؟ فيما يلي بعض الإمكانيات التي تخطر بالبال:
من هذه الناحية، لا يوجد على شاكلة الشعب في التبت. إنه يتمتع بخصائص مثلى. إنه موجود بين أحضان أحد المناظر الطبيعية الأكثر جمالا في العالم، على سفوح جبال الهيمالايا. طيلة مئات السنين، كان مجرد الوصول إلى هناك بمثابة مجازفة. لقد أثار دينهم الخاص الفضول والتعاطف. اللا عنف لديهم يسحر الألباب ويغطي أيضا على الأعمال الوحشية مثل المجزرة الأخيرة. الزعيم المنفي، دلاي لاما، هو شخصية حميمة، نجم في وسائل الإعلام. الكثيرون يكرهون النظام الصيني – وتكرهه أيضا الأنظمة الرأسمالية لأنه دكتاتورية شيوعية، ويكرهه الشيوعيون لأنه قد تحول إلى نظام رأسمالي. إنه ينمي المادية البشعة ومطلقة العنان، بخلاف تام للرهبان البوذيين الذين يقضون أوقاتهم بالصلاة وبالتأمل الداخلي. حين تقوم الصين بإنشاء قطار إلى عاصمة التبت، على امتداد آلاف الكيلومترات، لا يتأثرون في الغرب من هذا الإنجاز الهندسي. الذي يعرضونه هو (وبحق) وحش حديدي، يحضر إلى الأرض المحتلة آلاف المستوطنين الصينيين من أبناء الشعب الحاكم (هان). وبطبيعة الحال، الصين هي قوة عظمى صاعدة، يهدد نجاحها الاقتصادي السيادة الأمريكية في العالم. جزء كبير من الاقتصاد الأمريكي العليل أصبح تابعا، من الناحية العملية، إلى الصينيين. الإمبراطورية الأمريكية الهائلة غارقة في دين لا قرار له، والصين هي الدائنة الكبرى. الصناعة الأمريكية تنتقل إلى الصين، وتسحب معها ملايين أماكن العمل. مقابل هذه المعطيات، ماذا يمكن لأبناء الباسك، مثلا، أن يقدموا؟ هم أيضا، مثلهم مثل أبناء التبت، يسكنون في منطقة متواصلة من الناحية الجغرافية، معظمها في أسبانيا وجزء منها في فرنسا. هم أيضا شعب عريق، له لغة خاصة وثقافة خاصة. ولكن هؤلاء ليسوا مميزين، ولا يبهرون العين بشكل خاص. لا توجد عجلات صلاة. لا يوجد رهبان يرتدون العباءات. لا يوجد لدى أبناء الباسك زعيم حميم مثل نلسون منديلا أو دلاي لاما. الدولة الأسبانية، التي قامت على أنقاض دكتاتورية فرانكو الدامية، تتمتع بتعاطف العالم. أسبانيا تابعة للاتحاد الأوروبي، وهو حليف الولايات المتحدة. النضال المسلح للثورة الباسكية يثير الاشمئزاز لدى الكثيرين ويُعتبر "إرهابا" وخاصة بعد أن منحت أسبانيا إقليم الباسك حكما ذاتيا بعيد المدى. في هذه الظروف، لا يوجد لدى أبناء الباسك أي احتمال في الحصول على التعاطف العالمي لتطلعاتهم إلى الاستقلال. كان على الشيشان، للوهلة الأولى، أن يكونوا في وضع أفضل. إنهم أيضا شعب مميز، يتم حكمه منذ زمن طويل من قبل قياصرة الإمبراطورية الروسية الهائلة – من ضمنهم ستالين وبوتين. ولكن يا للهول، إنهم مسلمون – وقد حظي "رهاب الإسلام" في العالم الغربي بالمكان الذي كان محفوظا طيلة مئات السنوات لمعادي السامية. لقد تحول الاسم إسلام إلى مرادف للإرهاب، ويرون فيه دين الدم والقتل. بعد قليل، سيكتشفون أن المسلمين يذبحون الأولاد المسيحيين ويستخدمون دمهم لخبز الخبز. أما في الواقع فهذا دين عشرات الشعوب التي يختلف أحدها عن الآخر، من اندونيسيا حتى المغرب ومن كوسوفو حتى زنزيبار. الولايات المتحدة لا تخاف من موسكو كما تخاف من بيجين. خلافا للصين، روسيا لا تبدو كدولة من شأنها أن تتحول إلى قوة عظمى تسيطر في القرن الواحد والعشرين. الغرب غير معني بتجديد الحرب الباردة، كما هو معني بحملة صليبية جديدة ضد الإسلام. أما الشيشان المساكين، فليس لديهم زعيم ذو حضور ومتحدثون متميزون، لذلك اختفوا من العناوين. يمكن لبوتين أن يضربهم كما يحلو له، أن يقتل عشرات الآلاف أو أن يمحو مدنا كاملة عن وجه الأرض، ولن يحرك أي شخص ساكنة. هذا الأمر لا يعيق بوتين في أن يساند مطالبة مناطق أبحازيا وأوستيا الجنوبيتين في الانفصال عن جورجيا، التي تغضب روسيا. لو رأى عيمانوئيل كنت ما يحدث في كوسوفو، لقُضّ مضجعه في قبره. هذه المنطقة طالبت بالاستقلال عن الصرب، وأنا أيضا دعمت ذلك من كل قلبي. إنه شعب مميز، له ثقافة مختلفة (ألبانية) وله دينه (الإسلام). بعد محاولة سلوفودان ملوشيفيتش، الحاكم المحبوب في صربيا، طرد أبناء كوسوفو من بلادهم، انتفض العالم ومنح رعايته الأخلاقية والعملية لاستقلال المنطقة. يشكل الكوسوفيون من أصل ألباني حوالي 90% من عدد سكان الدولة الجديدة، التي يصل عدد السكان فيها إلى مليونين. البقية بنسبة 10% هم من الصرب – وهؤلاء لا يرغبون في أن يكونوا جزءا من دولة كوسوفو الجديدة. إنهم يرغبون في أن يتم ضم أقاليمهم إلى صربيا. حسب مبدأ كنت، هل هم يستحقون ذلك؟ كنت لأضع مبدأ أخلاقيا-براغماتيا: كل السكان الذين يقطنون في مساحة محددة، وهي ذات تميّز قومي، يستحقون الاستقلال. يجب على الدولة التي يوجد فيها سكان كهؤلاء أن تهتم بأن يشعروا هؤلاء فيها بالراحة، وأن يحصلوا على كافة حقوقهم، أن يتمتعوا بالمساواة وأن يحصلون على حكم ذاتي يلبي تطلعاتهم. باختصار: أن لا تكون لديهم الرغبة في الانفصال. هذا صحيح بالنسبة للفرنسيين في كندا. بالنسبة للإسكتلنديين في بريطانيا، للأكراد في تركيا، للمجموعات العرقية المخلفة في أفريقيا، للشعوب الأصلية في أمريكا اللاتينية، للتامليين في سريلنكا ولكثيرين آخرين. لكل منهم الحق في الاختيار بين المساواة الكاملة وبين الحكم الذاتي أو الاستقلال. هكذا نصل، بطبيعة الحال، إلى القضية الفلسطينية. في المنافسة على وسائلة الإعلام الدولية، فإن الفلسطينيين غير محظوظين. وفق كل المعطيات الموضوعية، إنهم يستحقون الاستقلال الكامل، مثل التبت تماما. إنهم يسكنون في منطقة جغرافية محددة، ولديهم تميّز وطني وهناك حدود واضحة بينهم وبين دولة إسرائيل. يجب على الإنسان أن يكون ذا عقل منحرف لينكر ذلك. ولكن الفلسطينيين يعانون من عدة مصائر قاسية: الشعب الذي يقمعهم يطالب لنفسه بتاج الضحية المتنازع عليه. العالم بأسره يتعاطف مع ضحايا الكارثة، أكبر الجرائم في العالم الغربي. لقد نشأ وضع غريب: يحظى القامع بالشعبية أكثر من ضحيته. من يدعم حق الفلسطينيين يُعتبر، بشكل أوتوماتيكي تقريبا، معاديا للسامية ومواصلا للكارثة. إضافة إلى ذلك، فإن الأغلبية العظمى من بين الفلسطينيين هم من المسلمين (لا أحد يولي اهتمامه للفلسطينيين المسيحيين). ولأن الإسلام يثير الخوف في العالم الغربي ويدب الرعب في قلبه، تحوّل النضال الفلسطيني أوتوماتيكيا إلى جزء من "الإرهاب الدولي". ومنذ اغتيال ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، لا يوجد لدى الفلسطينيين زعيم يثير الإعجاب – لا لدى فتح ولا لدى حماس. تذرف وسائل الإعلام الدولية الدموع على التبت، التي تستلب أرضها منها من قبل مستوطنين صينيين. ومن يأبه بالفلسطينيين، الذين تُستلب أرضهم من قبل مستوطنينا. في هذا الصخب العالمي حول التبت، يقارن المتحدثون الإسرائيليون أنفسهم - صدق أو لا تصدق - بأبناء التبت المساكين، وليس بالصينيين الأشرار. يبدو هذا الأمر منطقيا لدى الكثيرين. لو أخرجوا كنت من قبره، وسألوه عن الفلسطينيين، لكان سيجيب، على ما يبدو، باختصار "أعطوهم ما تعتقدون أنه يجب إعطاؤه للجميع، وكفّوا عن إزعاجي!" |