|
||
ها هم قرروا الآن أن يوجّهوا إلى اليهود افتراءات جديدة. هذا ليس الافتراء القديم حول ذبح الأولاد المسيحيين لاستخدام دمائهم لتحضير خبز الفصح، كما كان في الماضي، بل قتل جماعي للنساء والأطفال في غزة. ومن ذا الذي اختاروه ليكون رئيسًا للجنة التحقيق، التي ألقي على عاتقها أن تقرّ ذلك مسبقا؟ إنه ليس بريطانيًا ناكر للكارثة ولا نازيًا ألمانيًا، ولا أصوليًا إيرانيًا، بل هو قاض يهودي بالذات، الذي يحمل الاسم اليهودي الواضح غولدستون (ويعود أصل الاسم إلى غولدشطاين). إنه ليس مجرد يهودي يحمل اسمًا يهوديا، بل صهيوني كانت ابنته نيقول، وهي صهيونية متحمسة، قد "قدمت" إلى البلاد وتتحدث اللغة العبرية بطلاقة. وهو ليس مجرد يهودي صهيوني، بل هو أفريقي جنوبي قاوم الأبرتهايد وتم تعيينه في المحكمة الدستورية العليا في الدولة. تم كل ذلك بهدف الافتراء على الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، الذي شن الحرب الأكثر عدالة في العالم! غولدستون هو ليس اليهودي الوحيد الذي يتم تفعيله من قبل المؤامرة اللا سامية العالمية. وكانت قد أجريت مظاهرات في إسرائيل خلال الأسابيع الثلاثة للحرب على غزة ضد هذه الحرب، وشارك فيها عشرات آلاف الإسرائيليين. لقد تم تصويرهم بشكل كبير. حمل المتظاهرون لافتات تحمل العناوين "كفى للمجزرة في غزة"، "يجب وقف جرائم الحرب"، "إسرائيل ترتكب جرائم حرب"، "قصف المواطنين هو جريمة حرب". لقد صرخوا وكأنهم جوقة: "أولمرت، أولمرت لا تحتار/ محكمة لاهاي في الانتظار!" من كان ليصدق أن هناك لا ساميون كثيرون في إسرائيل؟! كان من شأن رد الفعل الإسرائيلي الرسمي حول تقرير غولدستون أن يكون مسليًا، لولا جدية الموضوع الكبيرة. ففيما عدا "المشتبه بهم العاديين" (غدعون ليفي، عميرا هس وأمثالهم)، كان الاستنكار موحّدا، قاطعا ومتطرفا، ابتداء من شمعون بيرس، محامي القباحة، وانتهاء بـ "الجراسلين" (الجراء المراسلين) في وسائل الإعلام. لم يدخل أي شخص إلى جوهر الموضوع. لم يراجع أي شخص الاستنتاجات المفصلة. لأنه من المؤكد أن هذا افتراء لا سامي، لم تكن هنالك حاجة إلى ذلك. في الحقيقة، لم تكن هنالك أية حاجة لقراءة التقرير ذاته. إن الجمهور، بجميع أطيافه، تكتل كفرد واحد، لصد هذه المؤامرة، مثلما تعود أن يفعل ذلك طيلة مئات سني المجازر، محاكم التفتيش والكارثة. عقلية الحصار، عقلية الجيتو. إن الرد الغريزي هو الإنكار. لا أساس لذلك من الصحة. هذا لم يحدث. كلها أكاذيب وبهتان. هذه ردة فعل طبيعية بحد ذاتها. عندما يعترض الإنسان موقف لا يمكنه مواجهته، فإن الإنكار هو المفر الأول. فإذا لم يحدث الأمر، فلا داع للمواجهة. ليس هنالك فرق بين منكري إبادة الشعب الأرمني، منكري إبادة الهنود الحمر في أمريكا ومنكري بشاعات جميع الحروب. فمن هذه الناحية يمكن القول أن الإنكار هو "أمر طبيعي" إلى حد ما. إلا أنه يصل لدينا إلى مستوى مميز من الإبداع. إن لدينا أسلوب مميز: عند حدوث أمر لا نرغب بمواجهته، فإننا نسلط الأضواء على موضوع آخر، يكون ثانويا للغاية، ونبدأ التمسك به، ومناقشته ومعالجته من كافة الأوجه، وكأنه مسألة حياة أو موت. لنأخذ على سبيل المثال حرب تشرين. لقد اندلعت هذه الحرب لأنه، طيلة ست سنوات، منذ حرب حزيران 1967، أبحرت إسرائيل كسفينة معتوهين، شرع ملاحوها يتغنون ثملين بنشيد الظفر وألبومات النصر، واثقين من أن الجيش الإسرائيلي هو جيش لا يقهر. نظرت غولدا مئير إلى العالم العربي نظرة احتقار ورفضت مبادرات السلام التي تقدم بها أنور السادات. النتيجة: أكثر من ألفي شاب إسرائيلي لقوا حتفهم، والعلم عند الله كم كان عدد المصريين والسوريين الذين لقوا حتفهم هم أيضا. وحول ماذا تمحور الجدال الحاد بينهم؟ حول "الإخفاق". "لماذا لم يجندوا قوات الاحتياط ؟ لماذا لم يتم دفع المعدات إلى الأمام؟" غضب مناحيم بغين في الكنيست، وقد تم تأليف كتب ومقالات وتعيين لجنة تحقيق رسمية. كانت الحرب الأولى على لبنان بمثابة حماقة من الناحية السياسية وفاشلة من الناحية العسكرية. دامت ثماني عشرة سنة، وتمخضت عن ولادة حزب الله وتعزيز مكانته. وحول ماذا تمحور الجدال بينهم؟ هل خدع أريئل شارون مناحيم بيغين وسبب له المرض والوفاة؟ كانت الحرب الثانية على لبنان مهزلة منذ بدايتها وحتى نهايتها، حرب لا مبرر لها ألحقت دمارا هائلا، قتلا جماعيا وطرد مئات آلاف المواطنين الأبرياء من منازلهم، من دون نصر إسرائيلي. وحول ماذا تمحور الجدال لدينا؟ لماذا تم تعيين لجنة تحقيق؟ حول أسلوب اتخاذ القرارات. هل كانت هذه العملية مبرّرة؟ هل كان هناك تخطيط منظم من قبل قيادة الأركان؟ لم يجر أي نقاش كهذا حول الحرب على غزة، لأن كل شيء فيها اقترب من الكمال. حملة عسكرية رائعة. إدارة سياسية وعسكرية رائعتان. نصر باهر. صحيح أننا لم ننجح في أن نحفز السكان على إقصاء زعمائهم، وصحيح أننا لم ننجح في إعادة غلعاد شليط إلى بيته، وصحيح أن العالم كله يستنكرنا - ولكننا قتلنا عربًا كثيرين، حرقنا بيوتهم وعلمناهم درسا لن ينسوه. يجري الآن نقاش حاد حول تقرير غولدستون. لا يجري هذا النقاش حول مضمونه لا سمح الله. ما الذي يستوجب النقاش هنا؟ بل حول النقطة الوحيدة الهامة. هل صدقت حكومة إسرائيل في اتخاذ قرارها لمقاطعة اللجنة؟ ربما كان من الأفضل، رغم كل شيء، أن تشارك في نقاشاتها؟ هل تصرفت وزارة الخارجية بحماقتها المعتادة؟ (من المؤكد أن وزارة الدفاع لدينا لا تتصرف بحماقة أبدا). تمطر الصحف والراديو والتلفزيون وابلا من الكلمات حول هذا الموضوع، وكل محلل يحترم نفسه يصرح بما لديه. إذن، لماذا قاطعت إسرائيل اللجنة؟ الإجابة الحقيقية هي غاية في البساطة. لقد عرفت أن الجنة، أي لجنة، ستتوصل إلى الاستنتاجات التي توصلت إليها. فاللجنة لم تأت، عمليا، بأي جديد. فمعظم الحقائق كانت معروفة قبل ذلك أيضا: قصف الأحياء المدنية، استخدام قنابل المسامير والفسفور الأبيض ضد أهداف مدنية، قصف المساجد والمدارس، منع وصول طواقم الإنقاذ إلى الجرحى، قتل المواطنين الذين حاولوا الفرار وهم يحملون رايات بيضاء، استخدام "إجراء الجار" (الدرع البشري)، وغيرها وغيرها. على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي لم يسمح للصحافيين بالاقتراب من ميدان المعركة، إلا أن هذه الحرب قد تم توثيقها من قبل وسائل الإعلام الدولية بكل تفاصيلها، وقد شاهدها العالم بأسره ببث حي ومباشر في التلفزيون. كانت الشهادات كثيرة جدا ومتتابعة، حتى أن كل من لديه ذرة عقل كان سيتوصل إلى هذه الاستنتاجات بنفسه. لو أدلى ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده بشهاداتهم، لكان يمكن لأعضاء اللجنة أن يأخذوا انطباعا من وجهة نظرهم - الخوف، الفوضى، عدم معرفة الاتجاهات - وكان للاستنتاجات أن تكون أقل حدة. ولكن لم يكن لجوهرها أن يتغيّر. فقد كانت الحملة العسكرية كلها تستند إلى الافتراض بأنه يمكن إسقاط حكم حماس بواسطة إلحاق معاناة لا يمكن تحملها من قبل السكان المدنيين. لم تكن إصابة السكان المدنيين "نتيجة جانبية"، يمكن منعها أو لا يمكن منعها، بل كانت عنصرا جوهريا من عناصر الحملة العسكرية ذاتها. إضافة إلى ذلك: أسلوب القتال كان يهدف إلى الاقتراب ومن وضع "صفر ضحايا" بين أوساط قواتنا – منع الضحايا بأي ثمن. كان هذا هو الاستنتاج الذي استخلصه الجيش الإسرائيلي، بقيادة غابي أشكنازي، من حرب لبنان الثانية. النتيجة تشهد على ذاتها: 200 قتيل فلسطيني مقابل كل جندي إسرائيلي، 6:1400. إن على أي تحقيق حقيقي أن يستخلص النتائج ذاتها التي توصلت إليها لجنة غولدستون. ولذلك لم تكن هنالك أية رغبة في إجراء تحقيق إسرائيلي حقيقي. أما "التحقيقات" التي أجريت فلم تكن سوا اجترار للوقائع. لقد قاد الرجل المسؤول، المدعي العسكري العام العقيد عميحاي مندلبليط الذي يعتمر الكيبا، قاد هذه العملية، ولذلك تمت ترقيته هذا الأسبوع إلى رتبة عميد. كل الأمور متعلقة بنوع التعيين ونوع التوقيت. لذلك فليس هناك أيضا أي احتمال لأن تقوم حكومة إسرائيل بتوجيه أوامرها الآن، بعد فوات الأوان، لفتح تحقيق حقيقي، كما يطالب ناشطو السلام في إسرائيل. ولكي تكون هذه اللجنة ذات مصداقية، عليها أن تحظى بمكانة لجنة تحقيق رسمية، برئاسة قاض من المحكمة العليا. عليها أن تجري تحقيقاتها بشكل علني، أمام كاميرات وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية. عليها أن تسمح بالوصول الحر للضحايا، سكان غزة، وأن تستمع إلى شهاداتهم، جنبا إلى جنب مع شهادات الجنود اللذين شاركوا في الحملة العسكرية. عليها أن تحقق في كل من الاتهامات التي تم طرحها في التقرير، جملة وتفصيلا. عليها أن تتحقق من الأوامر التي تم إصدارها والقرارات التي تم اتخاذها، ابتداء من رتبة رئيس الأركان وانتهاء برتبة الصف. عليها أن تراجع تقارير طياري سلاح الجو ومشغّلي الطائرات الصغيرة من دون طيار. تكفي هذه القائمة لكي ندرك أن مثل هذا التحقيق لم يتم إجراؤه ولا يمكن أن يتم إجراؤه. عوضا عن ذلك، تتواصل الحملة الإسرائيلية في العالم لتلطيخ اسم القاضي اليهودي ومن يمثلهم. ليست كل الادعاءات ضد هيئة الأمم المتحدة غير مبرّرة. على سبيل المثال: لماذا يتم التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في غزة (وكذلك الجرائم في يوغوسلافيا سابقا وفي دارفور، وهما قضيتان شغل فيهما غولدستون منصب المدعي الرئيسي)، ولا يتم التحقيق في ممارسات الولايات المتحدة في العراق وفي أفغانستان وأعمال الروس في الشيشان؟ ولكن الادعاء الرئيسي هو أن هيئة الأمم المتحدة هي مؤسسة لا سامية، وأن مجلس حقوق الإنسان هو لا سامي بأضعاف. إن نظرة إسرائيل إلى هيئة الأمم المتحدة معقدة جدا. لقد قامت الدولة استنادا إلى قرار من هيئة الأمم المتحدة، وهنالك شك أنها كانت ستقوم في الموعد وبالشكل الذي قامت بهما لولا ذلك القرار. ترتكز وثيقة استقلالنا، بكل ما فيها، على ذلك القرار. بعد مرور سنة، تم قبول إسرائيل في هيئة الأمم المتحدة على الرغم من أنها لم ترجع 750 ألف فلسطيني (في حينه). ولكن شهر العسل كان قد تشوش على الفور تقريبا. لقد تحدث دافيد بن غوريون عن لا هيئة أمم ولا من يحزنون، وقد تجاهلها. منذ ذلك الحين وحتى اليوم خرقت إسرائيل معظم قرارات هيئة الأمم المتحدة التي كانت متعلقة بها، بادعاء أن في هذه القرارات "أغلبية أوتوماتيكية" للدول العربية والدول الشيوعية. وقد أسهم في ذلك انسحاب قوات هيئة الأمم المتحدة من سيناء عشية حرب حزيران، بطلب من جمال عبد الناصر. وكذلك قرار هيئة الأمم المتحدة (التي ألغيت في هذه الأثناء) بأن الصهيونية هي عنصرية. أما الآن فإن هذا الادعاء يُطرح من جديد. فيقولون أن الأمم المتحدة هي مناهضة لإسرائيل، أي أنها لا سامية. كل من يعمل باسم الأمم المتحدة يكنّ الكراهية لإسرائيل. تبًا لهيئة الأمم المتحدة. تبًا لتقرير غولدستون. هذه هي سياسة قصيرة النظر مفزعة. العالم بأسره يسمع بأمر التقرير، ويتذكر الصور التي شاهدها في التلفزيون من غزة أيام الحرب. تتمتع هيئة الأمم المتحدة في العالم من احترام أخلاقي كبير. في أعقاب حملة "الرصاص المصبوب" أخذت تتدنى مكانة إسرائيل بين أوساط الرأي العام العالمي بشكل مستمر، وقد خفضها هذا التقرير أكثر فأكثر. ستكون لذلك تأثيرات عملية – سياسية، أمنية، اقتصادية وثقافية. إن الأبله - أو وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان - سيتجاهل ذلك. إذا لم يتم إجراء تحقيق إسرائيلي نزيه، فستعلو المطالبة بعقد مجلس الأمن ليحوّل القضية إلى المحكمة الدولية في لاهاي. سيُضطر براك أوباما إلى التفكير في فرض حق النقض الفيتو – الأمر الذي سيلحق ضررا فادحا بالولايات المتحدة، وسيطلب من إسرائيل أن تدفع ثمنا باهظا مقابله. وكما قيل: يمكن للمقولة "لا هيئة أمم، ولا من يحزنون" أن تتضح أنها "قنبلة أمم، وهم لا يعلمون". |