|
||
أمّا الثاني فيُعنى بـ"المساواة في العبء". وهدفُه المُعلَن هو فرض الخدمة العسكريّة على آلاف الشبّان الحريديين. لكنّ القانون الجديد يُعفيهم لأربع سنوات إضافيّة. يُدعى هذا "خداعًا إسرائيليًّا". أمّا اقتراح القانون الثالث فيتعلّق بالسلام، أو بالحريّ، بمنعه. وهو ينصّ على أنّ الحكومة لا يمكنها التنازل عن أرض تحت السيادة الإسرائيلية دون نيل مصادقة في استفتاء شعبيّ. حتّى الآن، لم يكُن في النظام الإسرائيلي شيء يُدعى استفتاءً شعبيًّا. وسينطبق القانون أيضًا على تبادُل الأراضي، مهما كانت صغيرة. ما الصلة بين اقتراحات القوانين الثلاثة هذه؟ ليست هناك أية صلة، سوى كونها جميعًا حبرًا على ورق. لكنّ كلًّا منها لا تقبله على الأقلّ إحدى كُتَل الائتلاف، التي كانت تعمل على إسقاطه. لإمرارها جميعًا، فرض الائتلاف على أعضائه وسيلة متطرّفة: عليهم التصويت لصالح الثلاثة، الواحد تلو الآخَر، في إجراءٍ مختصَر. لم يسبق أن حدث هذا مطلقًا. من الواضح أنّ هذا مؤشِّر إضافيّ على الاستبداد والفظاظة اليمينيَّين، اللذَين يميّزان الكنيست الحاليّة. كوسيلة دفاع عن النفس، انتهجت كُتَل المعارضة هي الأخرى خطوةً غير مسبوقة لدينا. فقد أعلنت عن مقاطعة جلسة الهيئة العامة للكنيست. لم يحضُر أيّ من أعضاء المعارضة في القاعة وقت النقاش والتصويت على اقتراحات القوانين الثلاثة. عقدت كُتَل المعارضة جلسةً بديلة، جرت فيها نقاشات يقِظة. المعارضة مكوَّنة من أسس مختلفة، لا تتعاون عادةً. فهناك الكتلتان الصهيونيتان اليساريتان: حزبا العمل وميرتس. وهناك الكتلتان الحريديتان: "يهدوت هتوراه" و"شاس". وهناك الكتل "العربية": "التجمع الوطني الديمقراطي" القوميّ، "القائمة العربية الموحَّدة" التي تشمل مكوِّنًا إسلاميًّا معتدلًا، و"الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" الشيوعية، التي تحتوي على مكوِّن يهودي صغير. اتّحد جميع المجموعات السياسية المختلِفة معًا للتعبير عن السخط على طُغيان اليمين. تعبِّر المقاطعة غير المسبوقة التي فرضوها على الاقتراع في الهيئة العامّة عن خطورة الأزمة البرلمانية، رغم أنها لم تمنع سنّ القوانين. لكنّ حساسية الإعلام تجاه الأزمة أخفت جانبًا جديًّا أكثر، جانبًا يمكن أن يغيّر مُستقبل الدولة بشكل جوهريّ. فالقنوات التلفزيونية الثلاث لم تكرِّس أكثر من دقائق معدودات لما يجري في الجلسة الرسمية، مركّزةً على ما جرى في الجلسة الموازية، التي كانت أكثر إثارةً للاهتمام. فقد أظهرت مثلًا كيف احتكّ رأس زعيم شاس، أرييه درعي، برأس إيتان كابل، أحد قادة حزب العمل. كان ذلك أكثر من مجرّد بادرة حُسن نيّة وديّة. كان هذا تعبيرًا سياسيًّا. فمنذ تأسيس دولة إسرائيل، ولمدّة 29 سنة، حكم حزب العمل الدولة بالتعاون الوثيق مع الأحزاب الدينيّة. وحتّى قبل ذلك، منذ 1933، ساد هذا الائتلاف بين السكّان اليهود. عام 1977، حدث الانقلاب التاريخي، الذي أتى بالليكود إلى السلطة، حين أدارت الأحزاب الدينيّة ظهرها لحزب العمل، وانضمّت إلى الائتلاف الجديد بقيادة مناحيم بيجن. كان ذلك أكثر من مناورة سياسية. فقد كان تغييرًا بنيويًّا في المشهد السياسي الإسرائيلي. مذّاك، تحكم إسرائيل الشراكة اليمينيّة - الدينيّة (مع توقّفات قصيرة). بدت هذه الشراكة غير قابلة للانحلال، حاكمة على إسرائيل بمستقبل من الأبارتهايد (الفصل العنصري)، الاحتلال، والمستوطَنات. بدت هذه الشراكة طبيعيّة أيضًا. فالدين اليهودي ينصّ على أنّ الله – بجلالته وعظَمته - وعد بني إسرائيل بالبلاد كلّها. وقد غرست المؤسسات التربوية الدينية لدى طلّابها وجهة نظر تركّز على الذات حصرًا، متجاهلةً كليًّا حقوق الآخَر. وبدا الطلّاب نتاج هذه التربية شركاء طبيعيين لليمينيين، الذين يرفعون شعار "أرض إسرائيل الكاملة". برهنت أحداث الأسبوع الماضي أنّ هذا ليس صحيحًا بالضرورة. فالحريديون المضادّون للصهيونيّة صافحوا الصهيونيين العلمانيين، وأيضًا - يا للهول – العرب! حوّل هذاالأمرُ الانتباهَ إلى الهاوية القائمة بين الحريديين، الذين يرفعون شعار الدين القديم للبلدة اليهودية وبين المتدينين القوميين، الذين دينهم هو عبادة قبليّة للدم والأرض. الدين، بالنسبة للحريديين، ليس عدُوًّا للسلام. على النقيض من ذلك، السلام والتعامُل الجيّد مع الغُرباء يُعتبَران من الوصايا. إذا صمدت القصيدة الملحميّة الثلاثيّة بين العلمانيين - الحريديين - العرب، فقد تنبئ بانقلاب جديد، ينهي حقبة بدأت عام 1977. لفهم ما يحدث، يجب فهم أهمية التفهُّم - تفهُّم الآخَر. المجتمع الحريديّ هو مجتمع منعزِل، تمامًا كالمجتمع العربيّ، وربما أكثر. الحريديون في إسرائيل مختلفون عن الإسرائيليين عامّةً - في نظرتهم إلى العالم، في فهمهم للتاريخ، في اللغة (كثيرون منهم ينطقون بالييديّة)، في ملابسهم، وحتّى في لغة الجسد. لم تنتج الأزمة الحاليّة عن معارضة الحريديين للجيش وللأيديولوجية الصهيونية كلّها. فجذورها أعمق بكثير. إنّ الهدف الأساسيّ للحريديين هو الصمود في العالم الذي يصبح عدائيًّا ومصدر تهديد أكثر فأكثر. يعني الصمود السيطرة الكاملة على الأبناء والبنات، من المهد إلى اللحد، دون إتاحة أيّ اتّصال مع غير حريديّين في كلّ مجالات حياتهم. لذلك لا يمكنهم أن يسمحوا لهم بالدراسة في مدارس عاديّة، التجنّد للجيش، العمل في مكان عمل اعتياديّ، أو السكن في حيّ غير حريديّ. لا يمكنهم أن يتيحوا لهم تناول الطعام برفقة غير الحريديين، ولا أن يلتقوا (لا سمح الله!) بالجنس الآخَر. سرّ البقاء هو العزلة المطلَقة. لا يمكن لليمينيين، المركِّزين على أنفسهم فقط، أن يفهموا ذلك، كما لا يمكنهم أن يفهموا وجهة نظر المواطنين العرب. اللعنة، لماذا يجب أن تمضي أمّ يهودية ليالي طويلة من الأرق قلقًا على ابنها الجندي، فيما هؤلاء المتهرِّبون يتمتعّون بحياتهم؟ لا يمكن أن يتخيّل شاب حريديّ أن يوقف دراسة التلمود، كما لا يمكن لشابّ عربيّ تخيّل إطلاق النار على شقيقه الفلسطيني. بالمناسبة، لا يريد قادة الجيش هؤلاء ولا أولئك. فهم يُصابون بالذعر حين يسمعون بتدريب وتسليح الشباب العربيّ (عدا بعض المرتزَقة البدو والدروز). وهم يصابون بالذعر أيضًا حين يفكّرون في استيعاب عشرات الآلاف من الحريديين، الذين سيحتاجون إلى معسكرات منفصلة، لكيلا يكون لديهم أيّ اتّصال، حتّى بالعين، بالفتيات. هذا دون الحديث عن الحاجات الخاصّة مثل المعابد، الطعام الطاهر كليًّا، والربانيين الخصوصيين، ليرشدوهم إن كان يجب أن يخضعوا لأوامر قادتهم أم لا. لكنّ أيّ ضابط ذي رتبة عالية لن يقول ذلك بحماسة. فشعارات الصهيونية القديمة تمنع ذلك. جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الشعب؛ يخدم الجميع فيه دونما تمييز؛ المساواة في الدفاع عن الوطن هي قيمة مقدَّسة. لذلك، تجري منذ عقود مكائد لخداع الذات. والآن، تُضطرّ الدولة إلى مواجهتها. حسب رأيي، علينا تقبّل الواقع: الحريديون (وكذلك المواطنون العرب) أقلية خاصّة، تحتاج إلى مكانة خاصّة. يجب وضع حدّ لخداع الذات، الحيَل، والخدع. يجب إعفاء الحريديين (والعرب) رسميًّا. ربما حان الوقت ليحتذي الجيش الإسرائيلي بالجيوش في العالم الغربي، التي تحوّلت إلى جيوش احترافيّة، مكوَّنة من متطوِّعين. لكنّ هذه قضيّة جانبيّة. فالمسألة الرئيسية هي: هل يمكن تجديد التحالف القديم بين اليسار والحريديين؟ هل يُحتمَل حدوث تغيير جوهريّ في تشكيلة القوى السياسية؟ هل يمكن إعادة اليمين والدينيين القوميين إلى وضع الأقليّة؟ هل يمكن أن ينشأ ائتلاف مضادّ من اليسار والحريديين، مع المواطنين العرب تكون لديه إمكانيّة الوصول إلى السلطة؟ هذا ليس مستحيلًا، لكنّ على المرء أن يكون متفائلًا ليؤمن بذلك. على أية حال، على المرء أن يكون متفائلًا ليؤمن بأيّ أمر جيّد. |