|
||
قبل 35 عاما، كان أحد القيادين في فتح وزعيما في منظمة التحرير الفلسطينية إضافة إلى أبو جهاد (اغتالته إسرائيل)، أبو إياد (قتله فلسطينيون)، وفاروق القادومي (الذي عارض اتفاق أوسلو فتم إبعاده). لقد التقيت أبو مازن في كل مرة زرت فيها عرفات في تونس. نشأت علاقة أخرى بيننا بعد أن عرفت أنه وُلد في صفد. كانت مدينة صفد المنزل الثاني لزوجتي الراحلة راحيل، التي قضت أشهر الصيف فيها في صغرها. كان والدها طبيب أطفال وعالج مرضى شبانا. لم يتذكر أبو مازن إذا تلقى ذات مرة رعاية صحية منه قبل أن تهرب عائلته من المدينة في عام 1948. بعد مقتل عرفات (وفق اعتقادي، رغم أنه ليست هناك أدلة على ذلك)، عُيّن أبو مازن رئيس فتح ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية. لم يكن أبو مازن شبيها بعرفات، إذ لم يحظ بشخصية البطل وبمكانة المؤسس العالمية. ولكن تم استقباله رئيسا. آمن عرفات بصفته زعيما لشعب صغير يكافح ضد عدو أقوى منه بكثير أن على الفلسطينيين أن يستخدموا كل الوسائل القليلة المتاحة أمامهم: الحرب، الدبلوماسية، العنف، وغيرها. ولكن بعد حرب الغفران، كان شريكا في اتفاق أوسلو. وفق أقواله: "لاحظت أن العرب حققوا انتصارا كبيرا في الحرب في البداية، ولكنهم خسروا في النهاية. عندها أدركت أنه لا يمكننا استعادة أراضينا عبر الحرب". أعتقد أن أبو مازن لم يؤمن بالعنف. فهو ليس عنيفا ويؤمن بالسلاح العربي الأنجع: الصبر. يعرف العرب أهمية الأوقات المختلفة أكثر من الإسرائيليين. فنحن الإسرائيليين لسنا صبورين. ماضينا السياسي قصير، ودولة إسرائيل قائمة منذ 70 عاما فقط. بالتباين، ماضي العرب طويل وحافل، وشهد الكثير من التقدم والتراجع. فهم معتادون على الانتظار. يشكل الصبر وسيلة ذات تأثير كبير. أعتقد أنه مقابل القوة الإسرائيلية، فإن هذه هي سياسة أبو مازن: الانتظار بصبر حتى تتغير الظروف، وفي هذه الأثناء الحفاظ على الصمود، وعلى الأرض وعدم التنازل عن أي شبر منها. ربما يستغرق هذا جيلا، جيلين، أو ثلاثة أجيال ولكن ستنجح هذه الخطة في النهاية. قد تكون هذه السياسية غير شعبية، ومحبذة. لكن تأثيرها ناجع على الأمد البعيد. (على أية حال، هذه هي وجهة نظري فحسب). ولكن قد يفقد أي شخص مثل أبو مازن صبره. كان خطاب "يخرب بيتك" الذي ألقاه وانتشر في العالم بمثابة لحظة من فقدان الصبر. في قائمة الشتائم العربية الطويلة، فهذه اللعنة أقل تطرفا. وهي شبيهة بـ "يمحى اسمك" بالعبرية. (ليست لدينا شتائم كافية بالعبرية، لهذا نستخدم الشتائم العربية أو الروسية أحيانا). الرئيس دونالد ترامب قادر على أن يثير غضب فيل. يعتقد العرب أنه جدير بالشتائم الأكثر تطرفا. منذ عشرات السنوات تتظاهر الولايات المتحدة بأنها تعمل وسيطا حياديا بين الإسرائيليين والعرب. عرض كل الرؤساء "برامج سلام" و "مبادرات سلام" لم تخرج حيز التنفيذ. وقد نشأت مبادَرة السلام الإسرائيلية - المصرية واتفاق أوسلو دون معرفة الأمريكيين. السبب بسيط تماما: هناك ملايين الناخبين اليهود في الولايات المتحدة. معظمهم صهاينة. بما أنهم لم يعملوا شيئا لإنقاذ اليهود الأوروبيين أثناء المحرقة، فيمكن خداعهم. وفي المقابل، فإن الناخبين العرب في الولايات المتحدة لا يكترثون. لذلك، يدعم كل رئيس أمريكي بدءا من دوايت ديفيد أيزنهاور (الذي كان شعبيا كثيرا ولم يحتج إلى تأييد الناخبين اليهود) على دعم إسرائيل. بما أن كل الحكومات الإسرائيلية رفضت حل السلام الذي كان يشترط أن تعيد الأراضي المحتلة، لا سيّما القدس الشرقية، فإن حيادية الولايات المتحدة كانت مجرد خدعة. ولكن يختلف ترامب عن الرؤساء الآخرين. فقد عين صهيونيا يمينيا متطرفا لشغل منصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل. عين صهره اليهودي وصهاينة آخرين ليعملوا وسطاء بين إسرائيل والفلسطينيين. وفي النهاية، اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل واعدا بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها. لو تحدث ترامب عن "القدس الغربية" فلم يثر عاصفة كبيرة. هناك اتفاق عملي أن القدس الغربية هي عاصمة إسرائيل. ولكن قصد ترامب القدس الكبرى مضيفا تلميحا أنه يجب رسم الحدود في المستقبَل. القدس الشرقية هي مصدر الخلاف الحقيقي. تدعي الحكومة الإسرائيلية أنه نشأت فيها الديانة اليهودية، أقيم فيها المعبد الأول والثاني، وأن الحائط الغربي هو جزء من المعبد (رغم أنه جزء من الجدار الداعم الخارجي). الحديث عن "القدس" بصفتها جزءا من الدولة اليهودية يلحق ضربة قاضية بعقيدة العرب الدينية الوطنية. عندما وضعت الأمم المتحدة خطة التقسيم عام 1947، قسمت البلاد بين الدولتين العربية واليهودية، ولكنها جعلت القدس مدينة وحيدة. رفض الإسرائيليون والفلسطينيون هذا التقسيم. بعد حرب 1948 عرض اليهود والعرب وأنا أيضا برنامج السلام الأول الذي كان يستند إلى مبدأ "دولتَين لشعبَين". تحدثنا في خطتنا عن "القدس الموحدة، عاصمة الدولتين". ما زال هذا الحل الوحيد القائم حاليا. وافق فيصل الحسيني الزعيم العربي القوي في القدس على هذا الحل. يمكن مشاهدة كلانا ونحن نقف تحت هذا الشعار. وافق عرفات وأبو مازن عليه أيضا. إذا، ماذا قال أبو مازن في خطابه المطوّل في المجلس الوطني الفلسطيني، إضافة إلى الشتيمة التي تصدرت العناوين الرئيسية؟ في الواقع، لم تُذكر أية معلومات جديدة. لقد صادق ثانية على "خطة السلام العربية" التي أؤيدها أيضا. ولكنه رفض خطة "حل الدولة الواحدة"، التي يدعمها بعض اليساريين المتطرفين بسبب اليأس. عمليا يعني هذا الحل دولة أبارتهايد (فصل عنصري) في ظل الحكم اليهودي. لقد وضع أبو مازن حدا للشعارات المخادعة، وكأن الولايات المتحدة قادرة على أن تكون وسيطا، وأن هناك عملية سلام، وأن اتفاق أوسلو ما زال قائما. رفضت قرارات المجلس الوطني الخاص بمنظمة التحرير الفلسطينية فكرة أن الولايات المتحدة قادرة على أن تكون وسيطا منصفا. لقد قرر المجلس "تأجيل الاعتراف بإسرائيل". هذه التصريحات فارغة. ولكنه قرر أيضا أن يأمر القيادة بـ "إيقاف التنسيق الأمني (مع إسرائيل) على أشكاله المختلفة، هذا أمر أخطر بكثير. أشك إذا كان أبو مازن سيتخذ خطوة كهذه. لقد تطرق المجلس بشكل خاصّ إلى الفتاة عهد التميمي التي نعتها بلقب "جان دارك الفلسطينية". على فكرة، تم تمديد اعتقالها هذا الأسبوع أيضا. لقد ناشد المجلس مقاطعة المستوطنات - ناشدت "كتلة السلام" مقاطعتها للمرة الأولى في عام 1998. بالتباين، أعرب عن دعمه حركة الـ BDS التي تؤيد مقاطعة كل المنتجات الإسرائيلية. بسبب نقص الوسائل، ناشد المجلس الشروع بعمل دبلوماسيّ في المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. هذه الخطوات ليست جديدة ولكنها تعبرّ عن الإصرار على المقاومة. يكره أبو مازن مثل الكثير من الزعماء فكرة الوريث. لقد أصبح عمره 82 عاما، ولكنه ما زال أصغر مني بكثير. ويبدو أنه قرر العيش مثلي إلى الأبد. |