تقع روسيا في أقصى الشرق من المغرب. كان من المفضّل أن نسمي أبناء هاتين المجموعتين "الشماليين" و"الجنوبيين"، ولكن بات هذا متأخرا جدا.

في إسرائيل اليوم، العداوة بين الشكناز والشرقيين آخذة بالازدياد. وهي تؤثر سياسيا واقتصاديا كثيرا. ليس من المبالغ به أن نوضح أن هذه الظاهرة باتت الآن الأهم في المجتمع الإسرائيلي، والأبرز في الفارق بين اليهود والعرب، الأغنياء والفقراء، النساء والرجال، واليمين واليسار.

قبل أن أتابع، أود أن أذكركم (وقد ذكرت هذا سابقا كثيرا) بعلاقتي بهذه الظاهرة.

عشت في السنوات الأخيرة من طفولتي في ألمانيا في عهد النازيين. ودامت تلك الفترة نصف سنة قبل أن أغادر ألمانيا التي كرهتها كثيرا حينها. لذلك، عندما اقتربت سفينتنا من ميناء يافا، فرحت كثيرا. كنت آنذاك في العاشرة من عمري، وكانت يافا في عام 1933 مختلفة تماما. فهي كانت مدينة صاخبة، مفعمة بالحياة، تفوح فيها روائح التوابل الغريبة. أحببتها كثيرا.

بعد مرور سنوات سمعت أنّ "الرواد" الصهاينة الذين جاؤوا إلى يافا العربية كرهوها من النظرة الأولى. لقد كانوا يعرّفون أنفسهم كأوروبيين. أحد القادمين الذين وصلوا إلى يافا هو مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتسل، الذي لم يكن يخطط إطلاقا لجلب اليهود إلى فلسطين. في زيارته الوحيدة إلى البلاد كره طابعها الشرقي. لقد كان يفضل إقليم باتاغونيا في الأرجنتين. (ورد الفصل المتعلق بذلك في كتابه "الدولة اليهودية"، الكتاب المقدس للصهيونية، تحت عنوان "فلسطين أم الأرجنتين؟").

في فترة خدمتي في الجيش، في حرب عام 1948، كان علي أن أختار الالتحاق بالجنود القادمين الجدد وبين الجنود البولنديين أو المغاربة. فاخترت المغاربة، هؤلاء الذين أنقذوا حياتي - عندما استلقيت جريحا أمام أنظار العدو، خاطر حينها أربعة من "المغاربة" بحياتهم وأنقذوني تحت إطلاق النيران.

شعرت حينها للمرة الأولى بما سيحدث. لقد حصلنا مرة على عطلة لعدة ساعات من الخدمة في الجيش. عندما صعدنا إلى الشاحنات للسفر إلى تل أبيب رأيت أن بعض الجنود الذين كنت مسؤولا عنهم يرفضون الصعود إلى الشاحنات. "تعارض الفتيات في تل أبيب أن تقضي أوقاتهن معنا"، كما قالوا. و "يوضحن أن بشرتنا سوداء".

منذ ذلك الحين صرت حساسا جدا تجاه هذه المشكلة، حتى عندما كان الجميع ينفي مجرد وجودها. في عام 1954، بصفتي محرر الصحيفة الأسبوعية "هعولام هازيه"، نشرت سلسلة باسم "يضطهدون السود"، كشفت فيها عن التمييز فأثارت فضيحة كبيرة. اتهموني بأنني أبتكر المشاكل، إذ إن مثل هذه المشكلة ليست قائمة إطلاقا. عندها كرهني الشكناز القليلون الذين لم يكرهوني سابقا.

بعد ذلك حدثت أعمال الشغب في وادي الصليب في حيفا، بعد أن قتل شرطي مواطنا شرقيا. دعمت صحيفة "هعولام هازيه" المتظاهرين.

بعد مرور عدة سنوات أقامت مجموعة من الشبان المقدسيين حركة احتجاجية وسمتها بالاسم الأمريكي "الفهود السود". دعمتهم. قالت غولدا مئير عنهم، كما هو معلوم: "إنهم ليسوا لطفاء"!

مرت سنوات ونشأ الآن جيل جديد. ولكن مازال يسيطر الصراع بين الشرقيين والشكناز على مجالات كثيرة في حياتنا. يصل تعداد الشرقيين إلى نحو نصف تعداد السكان اليهود في البلاد، ويشكّل الشكناز النصف الثاني. هناك أهمية لهذا التقسيم، ولكن لا أحد يحب الحديث عن ذلك علنا.

مثلا: الغالبية العظمى من ناخبي الليكود هم من الشرقيين، رغم أن قادة الحزب هم شكنازيون. في المقابل، يتألف حزب العمل من الشكناز غالبا. مؤخرا انتخب الحزب زعيما شرقيا، أملا منه بتغيير تعامل الشرقيين معه.

تنبع معارضتي للتمييز ضد الشرقيين، بشكل أساسي، من المطالبة بالعدالة الاجتماعية، والحلم المجتمعي، الحلم بأن نندمج جميعا معا؛ الشكناز والسفاريدم، في أمة عبرية واحدة. ولكن أعترف بأن لدي دافع آخر أيضا.

اعتقدت دائمًا - وما زالت أعتقد - بأنّه لا مستقبل لدولة إسرائيل كجزيرة غريبة في بحر من الشعوب الشرقية ("فيلا في أدغال"). أنا لا أكتفي بـ "السلام"، بل أحلم باندماج إسرائيل في "الفضاء السامي" (تعبير اخترعته قبل سبعين عاما).

كيف؟ كان لدي أمل كبير بأن الجيل الثاني أو الثالث من الشرقيين سيتذكر أن آباءه كانوا في ذلك الوقت جزءا لا يتجزأ من الازدهار الثقافي الهائل في العالم الإسلامي. أملت أن يشكل الأشخاص جسرا بين الأمة العبرية الجديدة وبين الجيران الفلسطينيين والعالم الإسلامي كله.

أعتقدت أنه من الطبيعي أن يتذكر الشرقيون، الذين اعتبرهم الشكناز "آسيويين" وضيعين، ماضيهم المجيد. أن يتذكروا الأيام التي كان فيها اليهود في العراق، إسبانيا، مصر وبلدان إسلامية أخرى شركاء كاملين في الحضارة المزدهرة، في الوقت الذي ما زال فيه معظم الأوروبيين لا يعتبرون بشرا.

كان اليهود المتعلمون - الفلاسفة، علماء الرياضيات، الشعراء والأطباء - شركاء في تلك الحضارة، مع زملائهم المسلمين. عندما اضُطُهد اليهود في أوروبا يوميا، اضطروا إلى العيش في غيتوهات، وطردوا من بلاد إلى أخرى وحاكمتهم محاكم التفتيش الفظيعة، كانت حالتهم في العالم الإسلامي مختلفة تماما. فهم تمتعوا فيها (والمسيحيون أيضا) بحقوق كاملة. كانت لديهم مكانة "أهل الكتاب" (أي، الكتاب المقدس اليهودي) وحظوا بحقوق كاملة، فيما عدا حق الخدمة في الجيش. بدلا من تلك الخدمة دفعوا ضريبة خاصة. لم تُرتكب فظائع بحق اليهود تقريبا.

وها هنا حقيقة هامة: عندما طُرد اليهود من إسبانيا عام 1492، هاجرت أقلية قليلة إلى امستردام، لندن، وإلى هامبورغ. انتقلت الغالبية العظمى إلى البلدان الإسلامية، من المغرب حتى إسطنبول. (بالمناسبة، من المثير للاهتمام أن مجموعة صغيرة فقط سكنت في أرض إسرائيل).

ومع ذلك، عندما جاء اليهود الشكنازيون إلى دولة إسرائيل الجديدة، تبددت آمالي. فبدلا من أن يشكلوا جسرا بين إسرائيل والعالم العربي، أصبحوا كارهي العرب الأكثر تطرّفا. نُسيت مئات السنين من الثقافة الإسلامية - اليهودية المشتركة كما لو أنها لم تكن.

لماذا؟ لأنّ الشكناز احتقروا الشرقيين، وبدأ الشرقيون أنفسهم باحتقار ماضيهم الشرقي. لقد حاولوا أن يكونوا أوروبيين، كارهين للعرب، الأكثر وطنيين، يمينيين متطرّفين.

(رغم أن أحد الشرقيين قال لي مرة: "نحن لا نريد أن نكون جسرا. الجسر هو شيء يدوسون عليه").

ولكن لا أحد يمكنه التهرب من واقعه. يتحدث معظم الشرقيين العبرية بلكنة عربية. إنهم يحبون الموسيقى العربية (موسيقى الزي التنكّري "الموسيقى الشرق أوسطية"). إنهم لا يتأثروا بموتسارت وبيتهوفن. لا يختلف مظهرهم الخارجي عن مظهر القادمين من أوروبا. هذا سبب آخر لكراهية العرب.

إن نسيان الثقافة اليهودية الشرقية هو ظاهرة عامة. لا يعرف الأطفال الإسرائيليون من أصول شرقية أية معلومات عن الكتاب والفلاسفة في حضارتهم. إنهم لا يعرفون بأنّ الصليبيين المسيحيين، الذين احتلوا البلاد المقدسة، قد ذبحوا المسلمين واليهود على حدّ سواء، وأنّ اليهود دافعوا جنبا إلى جنب مع المسلمين عن القدس وحيفا.

ورغم أنّ الرمبام معروف كثيرا، لكنه معروف كحاخام مهم، وليس كطبيب شخصي وصديق كبير لأحد القادة المسلمين، صلاح الدين. أصبحت تظهر أسماء مثقّفي يهود إسبانيا في العصور الوسطى في لافتات الشوارع. يعرف القليلون منهم ماضيهم. لا تظهر صورة أي منهم على العملات الورقية.

وصلت هذه الظاهرة إلى ذروتها في مجال الدين. يرتدي الحاخامات "السفارديم" المهمون في البلاد مثل حاخامات لتوانيا قبل مئات السنين. لكن كان الحاخام عوفاديا يوسف، وهو يهودي شرقي، بشكل استثنائي، يعتمر مثل وريثه السياسي، أرييه درعي، قبعة شكنازية كبيرة.

ومع ذلك أنا متفائل.

أعتقد بأنّ طبقة من المفكرين الشرقيين ستبحث عن جذورها. مع صعود مكانتها الاجتماعية، ستخلي التجمعات القومية مكانها للوطنية الإسرائيلية العادية. أنا أؤمن بأنه سيقوم جيل رابع وخامس لن يحلم فقط في المساواة في الحقوق فحسب، بل في السلام والاندماج في المنطقة.

أتمنى حدوث ذلك.